اعتصام الكامور.. ''معركة'' فرض الكرامة
بقلم: شكري بن عيسى (*)
لم يكن من أحد يتصور أن التحركات الاحتجاجية التي انطلقت قبل شهر في تطاوين ستتطور الى هذا المستوى من الحدة (في القوة وليس في العنف)، وتشد اليها اهتمام كل الشعب وتلفت اليها الراي العام الدولي بل وتحرج وتربك الحكومة وتكشف عجزها ازاء المطالب البسيطة-المركّبة، المتمثلة بصفة أساسة في توفير مواطن شغل غير هشة (قارة)، والتمتع بنصيب معتبر في الشركات الطاقية التي تعد قرابة مائة شركة المنتصبة هنالك، وتخصيص نسبة من عائدات البترول لتنمية الجهة، على قاعدة تواجد الثروات المستغلة بتراب المنطقة.
لم يكن من أحد يتصور أن التحركات الاحتجاجية التي انطلقت قبل شهر في تطاوين ستتطور الى هذا المستوى من الحدة (في القوة وليس في العنف)، وتشد اليها اهتمام كل الشعب وتلفت اليها الراي العام الدولي بل وتحرج وتربك الحكومة وتكشف عجزها ازاء المطالب البسيطة-المركّبة، المتمثلة بصفة أساسة في توفير مواطن شغل غير هشة (قارة)، والتمتع بنصيب معتبر في الشركات الطاقية التي تعد قرابة مائة شركة المنتصبة هنالك، وتخصيص نسبة من عائدات البترول لتنمية الجهة، على قاعدة تواجد الثروات المستغلة بتراب المنطقة.
وهذا المطلب الاساسي على بساطته الظاهرة أعاد طرح القضايا الجوهرية التي ظلت مطموسة، وحتى اثارتها مع ثورة الحرية والكرامة لم يجعلها ذات اعتبار بعد طمسها السريع، بل انه اعاد صياغة ولو واقعية لمفاهيم جديدة استمرت لعقود في دولة ما بعد الاستعمار بمضامين لا تحقق جوهرها وكنهها، مثل "المواطنة" و"الوطن" و"الوحدة الوطنية" و"العدالة" و"الثروات الطبيعية" و"توزيع الثروة" و"تقسيم السلطة"، ومن خلال ميزان القوى على الميدان عبر الاعتصامات المتعاقبة المتعددة الى رسم مشهد جديد على قواعد مختلفة.
والتحكّم في الميدان بشكل تلقائي ولكن منظّم ونوعي هو احد عوامل قوة المحتجين، فالاعتصامات كانت سلمية بعيدة عن التوظيف الحزبي والاختراقات المالية، كما انها متحركة في الامكنة ومتعددة وزيادة مختلفة الأشكال، من قطع الطرق الى الانتشار الواسع المنتظم والتجمعات العامة الى دعمها بالاضرابات العامة، والاهم هو التفاف الجميع حولها من مواطنين الى منظمات وطنية الى مجتمع مدني الى احزاب، وتواصل التصميم وحشد الاف من الشباب المتحمس المنظبط، الذي افشل كل اشكال الشيطنة التي تدعي تعريض امن البلاد للتهديد او السماح للدواعش بالتسرب.
وضوح الاهداف وبساطتها والتزام الجميع بها واخراج التفاوض عن التجاذب الحزبي والجمعياتي ووضعه بين ايادي تنسيقية المعتصمين أربك الحكومة، وكشف محدودية مقارباتها وعرّى عجزها عن الاستشراف وفضح عقم الاساليب الاعتيادية المبنية على الاستعراضات والدعاية الجوفاء، ورفض المقررات المرتجلة للمجلس الوزاري المخصص للجهة المنعقد بتاريخ 10 افريل الجاري كان اول حلقات ملحمة فرض الكرامة، أما منح هدنة للحكومة لتدارك امرها بعد تحول الحمامي للجهة الذي تم تحجيم تورّمه (السياسي) المرضي فكان نقلة نوعية في الملحمة، وكانت الخاتمة برفع "ديغاج" في وجه الشاهد الذي زار الجهة الخميس 27 افريل مع طاقم وزاري هام تحت وقع الاضراب العام، وتم اضطراره لقطع برنامج الزيارة.
تأخر ساكن القصبة الذي كان مترددا مرتبكا لزيارة المنطقة وتسبيقه صفاقس كلفه غاليا، برفع درجة التوتر والاحتقان عاليا وخفض منسوب الثقة في الحكومة الى أدنى مستوى، ما عسّر أمر التواصل والتفاوض خاصة وأن الحكومة افتقدت الحلول المبتكرة في ظل عجزها عن تلبية المطالب المباشرة، واهالي الجهة بعدما فرضوا وارضخوا الشاهد لزيارتهم والتفاوض معهم، واقتلعوا بذلك الشرعية واعتراف الدولة التي تجاهلتهم لعشرات السنين بمركز قوتهم، رفضوا الخطاب المجتر الاجوف وسياسة المسكنات، وزيادة اعلنوا عن انتهاء الزيارة واعلنوا فشلها بعجزها عن الاستجابة لمطالبهم الدقيقة.
والشاهد الذي اختار مواجهة الازمة والاقتراب مرغما طمعا في تمرير "الطعم"، تلقى درسا قاسيا في تطاوين بعد أشهر العسل التي قضاها ينظّر في الحوكمة منتقدا ادوات الحكم السابقة التي حملها المسؤوليات (برغم انه شخصيا وحزبه كانوا جزءا منها)، وقد غرق في نفس السياسات ولكن باشكال جديدة لم يكن يتصوّر أنّ صيغ المطالب والاحتجاج سترتقي الى هذا المستوى، الى حد اصابته بالاحباط الشديد الذي كان ظاهرا على وجهه، ولم يكن يتصوّر ان حكومته كانت موتورة عن الواقع الى ذلك الحد الذي تطرد فيه خائبة ذليلة، في ظل توسّع رقعة الاحتجاجات وانتشار الحريق الاجتماعي الى عدة مناطق.
الأزمة هذه المرة ليست اعتيادية بكل المواصفات، أزمة بواقع مرير من غبن وتهميش واقصاء عميق على امتداد حقبة الدولة "الوطنية"، في منطقة حدودية في اقاصي البلاد في جهة تحتل نسبة كبيرة من مساحة البلاد (قرابة الخُمُس)، تتركّز فيها ابرز ثروات البلاد الطاقية (قرابة 80% من انتاج النفط في سنة 2006 حسب بعض المراجع)، والاحتجاجات خلخلت المفاهيم السابقة وزعزعت التوازنات القائمة، وفرضت النقاش خاصة حول الثروات الطبيعية وحق الجهات فيها وأعادت التفكير حولها، بعد أن عطّلت الحكومة الحالية والتي قبلها تطبيق اليات "اللامركزية" و"التمييز الايجابي" و"التوازن بين الجهات" و"تخصيص نسبة من المداخيل المتأتية من استغلال الثروات الطبيعية للنهوض بالتنمية الجهوية على مستوى وطني" التي اتى بها دستور 2014.
واليوم #اعتصام_الكامور تحت شعار #الرخ_لا الذي يأتي في مسار نوعية جديدة من الانتفاض دشنتها جمنة قبل اشهر، زعزع "المركز" وجعله يتحوّل الى "الهامش" بل انتقل هو الى "المركز" الذي يفرض الموازين الجديدة، ويعيد رسم الحدود ويسطّر مربّعات التحرّك ويفرض الكرامة التي انتزعت لمدة تزيد عن 60 سنة، اسم #تطاوين اليوم اصبح عاليا في كل البلاد وصفحات التواصل الاجتماعي تشارك واسعا فيديوات وصور ومستجدات التحركات هنالك، والحكومة تتخبط بعجزها عن تقديم حل يقنع وينهي الاحتقان، وعجزها عن مواجهة تحركات سلمية بعيدة عن الاحزاب لكنها تعطّل انتاجا اكثر حيوية من الفسفاط كما كان في قفصة.
عجز الحكومة افقدها جزءا كبيرا من مشروعيتها المهترئة اصلا، خاصة مع الاداء السيء لعديد وزرائها، بالتوازي مع تدهور الدينار، وانتشار الاحتجاجات في عديد الجهات والاضرابات بين عديد القطاعات المهنية، والانعكاسات ستكون سلبية اجتماعيا وسياسيا وخاصة اقتصاديا في ظل هشاشة عالية في النمو، واستمرار الوضع على هذا الحال دون خلق مخارج مبتكرة ربما قد يقود الى سقوط كامل ليس للحكومة فقط بل لمنظومة اكتوبر 2014 برمتها، التي تعددت الازمات الهيكلية في الحكومات المنبثقة عنها.
فهل سيقود اعتصام الكامور الذي ينشد فرض الكرامة الى اسقاط الحكومة في ظل عجز صار هيكليا اليوم في الحوكمة السياسية بشكل عام، خاصة وأن الحكومة والرئاسة امام "خيارين" كلاهما مر حنظل، الأول تجاهل الامر بما يعنيه من استقالة تامة ودخول في "غيبوبة" سياسية قاتلة، خاصة وأن انتاج المواد الطاقية يتوقف عليه الامن العام الوطني، والثاني انتهاج المقاربة الامنية القمعية وما تعنيه من مخاطر "انتحارية"، وتشعل فتنة لا يستطيع احدا ان يعرف مداها ودمارها.
وفي كل الحالات فالمشهد اليوم بعد تنقل الشاهد لتطاوين ليس المشهد قبل الزيارة، وموازين القوى ليست نفسها قبل الزيارة، والمفاهيم والمعاني والغايات يعاد تشكيلها و شحنها وصياغتها، في "معركة" استعادة الحقوق المنتهكة لاكثر من نصف قرن، وفك العزلة والحصار الظالم المضروب على الجهة منذ الاستعمار، وفرض الكرامة التي جاءت بها ثورة الحرية والكرامة والتفت عليها الطبقة السياسية، ورد الاعتبار للجهة التي واجهت المستعمر منذ البداية ومثّلت معقل الثوار وخاصة "الفلاّقة" وشكّلت قاعدة اساسية في دحر الاستعمار وتحرير الوطن.
اعتصام الكامور.. استرجاع لمعاني الثورة المغدورة في عمقه.. في شكل مبتكر خلاّق نوعيّ.. عرّى زيف الخطاب الرسمي.. وفضح قصور وعجز المقاربات.. سيكون له بالمحتّم ما بعده..!!
(*) قانوني وناشط حقوقي
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 141969