ديموغرافيا مهملة، سيادة مهدَّدة

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/694510aab7b8b5.61512910_poqgjmnflheik.jpg width=100 align=left border=0>


حاتم بولبيار

تتجه تونس، بحسب ما يكشفه السياق الديموغرافي الراهن، نحو خسارة تُقدَّر بنحو نصف مليون ساكن مقيم في أفق سنة 2034. وعندما يُنشر التعداد السكاني المقبل، سيكون الوقت قد تأخر كثيرًا لتدارك المسار. فالإشكال لا يقتصر على تطوّر الأرقام في حدّ ذاته، بل يمتدّ إلى المنهج المعتمد في قياس السكان وصياغة السياسات الاقتصادية على أساسه.





لقد أصبح الاعتماد على تعداد سكاني يُنجز كل عشر سنوات إجراءً متجاوزًا. فالدول الحديثة تعتمد إحصاءً سكانيًا مستمرًا، مع نشر سنوي للمعطيات على المستوى الوطني، وتحيينات محلية أدقّ وعلى فترات أقصر. أمّا الإيقاع العشري، فقد بات من مخلفات القرن الماضي، ويعكس تصوّرًا جامدًا للسكان لا ينسجم مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية وتسارع الهجرة.

البنية التقنية متوفّرة بالفعل. وما ينقص هو تغيير العقيدة المعتمدة في قياس السكان. بعبارة أخرى: الانتقال من منطق إحصائي يعود إلى القرن العشرين، إلى إدارة ديموغرافية تُستعمل كأداة توجيه للسياسات الاقتصادية والمالية في القرن الحادي والعشرين.


التعداد الدائم: خيار متاح تقنيًا ومعطَّل سياسيًا

يمثّل نظام مدنية (MADANIA) البنية الرقمية المركزية لمنظومة الحالة المدنية في تونس، ويتيح تسجيلًا آنيًا للولادات والزيجات والوفيات، بما يوفّر قاعدة دقيقة لمتابعة تطوّر الكتلة السكانية المنتِجة والمستهلكة. كما تتوفّر أدوات مؤسسية قادرة على تتبّع الهجرة سنويًا واستكمال الصورة الديموغرافية.

غير أنّ هذا الإمكان ما يزال معطّلًا. فالتعطيل القائم اليوم لا يبدو مسألة تقنية بقدر ما هو فجوة في إدراك الزمن. إذ تواصل السياسة الاشتغال بإيقاع إداري بطيء، في حين يتحرّك الزمن الديموغرافي بوتيرة أسرع بكثير. ونتيجة هذا الخلل، تُصاغ قرارات اقتصادية استنادًا إلى معطيات متقادمة، ويُخطَّط لسوق الشغل على أساس حجم قوى عاملة لم يعد موجودًا فعليًا، فيما تواصل السياسات الاجتماعية الاشتغال بمنطق لا يواكب تسارع الشيخوخة.

وعليه، فإن الخلل لا يكمن في نقص البيانات ولا في غياب البنية المعلوماتية، بل في عدم إدماج الديموغرافيا بوصفها متغيّرًا سياديًا في الاقرار الاقتصادي.


من وفرة سكانية إلى تباطؤ اقتصادي

عرفت تونس تاريخيًا نموًا سكانيًا وفّر قاعدة دعم للنشاط الاقتصادي، سواء من حيث اليد العاملة أو الاستهلاك. غير أنّ هذا المسار بدأ ينكسر خلال العقد الأخير، خصوصًا في الجهات الداخلية والريفية التي كانت تمثّل خزانًا ديموغرافيًا واقتصاديًا. هذا التحوّل لا يعني فقط تراجع عدد السكان، بل بداية تباطؤ اقتصادي بنيوي نتيجة تقلّص القاعدة المنتِجة والمستهلكة في آن واحد.


القطيعة الديموغرافية بالأرقام

تكشف المؤشرات الحديثة عن انتقال ديموغرافي متقدّم، يتمثّل في تراجع عدد الزيجات، انهيار الولادات، تسارع الشيخوخة، وتحوّل الهجرة إلى عامل انكماش صريح.



تُظهر هذه المعطيات انتقال تونس خلال عقد واحد من فائض ديموغرافي قوي بلغ نحو 168 ألف نسمة سنة 2014، إلى وضعية ركود ثم بداية انكماش،
نحو تقلّص في عدد السكان المقيمين … وانكماش السوق.


نحو تقلّص في عدد السكان المقيمين … وانكماش السوق

تتلاقى التقديرات عند أفق 2034 حول عدد سكان مقيمين يُقدَّر بنحو 11.5 مليون نسمة، يُضاف إليهم قرابة 2.5 مليون تونسي مقيم خارج أرض الوطن. وبذلك يبلغ العدد الجملي للتونسيين نحو 14 مليونًا، مع وجود تونسي واحد من كل خمسة يعيش خارج أرض الوطن.

وحين يعيش تونسي واحد من كل خمسة خارج أرض الوطن، فنحن لا نتحدث عن هجرة أفراد، بل عن إعادة توزيع للأمة في الفضاء. فجزء معتبر من الطاقة البشرية المنتِجة، ومن الإمكانات الإنجابية، ومن مسارات تشكّل الأجيال المقبلة، يتم اليوم خارج المنظومة الوطنية.

وتقلّص السوق الداخلية هو الوجه الاقتصادي المباشر لهذا السياق الديموغرافي. إذ يعني ذلك انكماش قاعدة الاستهلاك، وتراجع جاذبية الاستثمار، وارتفاع كلفة خلق النمو، إلى جانب تقلّص القاعدة الجبائية، في وقت تتصاعد فيه كلفة الشيخوخة ويتعمّق العجز الهيكلي للصناديق الاجتماعية (CNSS وCNRPS وCNAM).

الديموغرافيا، السيادة، واختلال موازين القوة

إذا استمر السياق الديموغرافي الراهن دون تصحيح، قد تدخل تونس، ابتداءً من عقد الأربعينيات، مرحلة تقلّص ديموغرافي عميق، مع احتمال نزول عدد السكان المقيمين إلى ما دون عشرة ملايين نسمة. وتزداد خطورة هذا المسار عند مقارنته بجارها المباشر، الجزائر، التي قد يتجاوز عدد سكانها خمسين مليون نسمة خلال الفترة نفسها.

ويُنتج هذا التفاوت اختلالًا بنيويًا دائمًا في موازين القوة، له تبعات اقتصادية واستراتيجية وجيوسياسية بعيدة المدى. فالدول ذات الأسواق الواسعة والكتل السكانية الكبيرة تملك هوامش قرار أوسع وقدرة أعلى على امتصاص الصدمات.



نحو عقيدة وطنية للاستئناف الديموغرافي

أمام هذا التحوّل العميق، لم يعد التراخي خيارًا. ولا يمكن أن تكون الاستجابة ظرفية أو مجزّأة، بل ينبغي أن تتخذ شكل عقيدة وطنية للاستئناف الديموغرافي، تُقرّ فيها الدولة بأن الديموغرافيا ليست مسألة اجتماعية فقط، بل ركيزة من ركائز السيادة الاقتصادية والمالية.

ويُفهم الاستئناف هنا لا بوصفه عودة آلية إلى مسار سابق، بل باعتباره إعادة تشغيل واعية للدينامية الديموغرافية على أسس اقتصادية واجتماعية جديدة، تستجيب للتحولات الجارية وتكسر حالة الركود البنيوي.

ولا يتعلّق الأمر بخطاب إنجابي مجرّد، بل بإعادة بناء شروط الثقة: أفق اقتصادي واضح، استقرار مهني، سياسة سكن قابلة للنفاذ، ومدن قادرة على الاحتفاظ بشبابها، مع ربط استراتيجي بالجالية التونسية المقيمة خارج أرض الوطن باعتبارها امتدادًا للسوق الوطنية ورصيدًا إنتاجيًا ومعرفيًا.

الديموغرافيا ليست قدرًا محتومًا، لكنها مرآة صارمة لقدرة أمة على الاستمرار في الزمن. وتجاهل هذا السياق لا يعني سوى القبول بـانكماش السوق، وتآكل الموارد، وتراجع الوزن الاستراتيجي، لا دفعة واحدة، بل ببطءٍ صامت يصعب تداركه حين يصبح واقعًا.



   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 320493


babnet