الفساد السياسي الأعظم: هدر الزمن.
المهدي الجندوبي
الزّمن الديمقراطي هو حقبة بين دورتين انتخابيتين و كل الأفكار و الوعود و المشاريع و المبادرات التشريعية و الإصلاحات التي حملت المسؤولين الى رأس السّلطة يجب ان تنجز كليا او جزئيا على إمتداد هذه الحقبة.
الزّمن الديمقراطي هو حقبة بين دورتين انتخابيتين و كل الأفكار و الوعود و المشاريع و المبادرات التشريعية و الإصلاحات التي حملت المسؤولين الى رأس السّلطة يجب ان تنجز كليا او جزئيا على إمتداد هذه الحقبة.
خمس سنوات هي حوالي 1825 يوم، ما أطولها فترة عندما يجلس المسؤول الجديد معزّزا مكرّما بشرعية شعبية حديثة، و يفتح رزنامته و هو بين مكالمة تهنئة و أخرى، ليخطّط لتحرّكاته المستقبلية. كم شجرة سيغرسها و كم مشروع قانون سيدفعه للنقاش و التّصويت و كم بناية جديدة سيسعى لإنجازها و كم زيارة سيقوم بها لكل قرية أو مدينة في الوطن و كم تقرير أو دراسة سيطّلع عليها و أخرى سينجزها أو يشارك في انجازها و كم جلسة عمل سيحضرها و كم مسؤول أصغر سيعيّن و يكوّن و يحفّز و يوجّه.
لكن بين الزّمن الديمقراطي على الرّزنامة و الزّمن الديمقراطي الفعلي هناك فارق كبير. من الخمس سنوات يجب أن نحذف بكلّ واقعية السنة الأخيرة لأنها عادة سنة إعداد الإنتخابات القادمة و إعلان الترشّحات الممكنة و هي سنة تتقلّص فيها الشرعية الانتخابية الى أقصاها و يصعب فيها طرح القضايا و المبادرات الطّموحة و يتضاعف فيها الخوف من إغضاب قطاع من قطاعات الرأي العام و التخوّف من أصوات ستضيع على المسؤول أو على حزبه عل مقربة من موعد الإنتخابات، و في أحسن الحالات تخصص السنة الأخيرة من العهدة إلى تثبيت ما أنجز.
كذلك نصف السنة الأولى من العهدة الديمقراطية، فرغم انها فترة ذروة الشّرعية الجديدة التي تعطي لكلّ مسؤول أجنحة سياسية إستثنائية تسمح له بإعلان أكثر الإاصلاحات جرأة و هي فترة يجد فيها كلّ الآذان صاغية لأفكاره الجديدة التي يتشرّب كل مواطن الى معرفتها، فهي أيضا على العكس من ذلك فترة دربة و حذر إطّلاع على الملفات و تشكيل فرق عمل جديدة و تعوّد على العمل ضمن بيئة جديدة و مع هرم من المسؤولين الآخرين و كلّ هذا يحتاج الى جهد و وقت.
العهدة الفعلية إدا قبلنا الملاحظة السابقة، لا تزيد عن ثلاث سنوات و نصف. و منها يجب أن نحذف أيضا فترة من الزمن الاجتماعي حيث تكون فيه بالضرورة وتيرة عمل كل المؤسسات مخفّضة و يندر ان تكون فضاء زمنيا مناسبا لمشاريع و مبادرات قويّة و هي عادة فترات الصيف حيث تعطّل الكثير من المؤسسات و منها مجلس النواب و المحاكم و فترات رمضان المبارك اي حوالي شهرين على الأقل. و لهذا يجب ان نحذف من الثلاث سنوات و النّصف السابقة، حوالي نصف سنة إضافية تخصّص للصّيف و العطل و شهر رمضان المبارك لنخلص أن العهدة الفعلية في الزمن الديمقراطي، أي التي يمكن ان تعلن فيها الافكار الجريئة و القرارات المصيرية، لا تتجاوز 3 سنوات و على الاقصى ثلاث سنوات و نصف اي تقريبا اقلّ من 1300 يوم، أي بخسارة حوالي 500 يوم من الرّزنامة الأصلية للعهدة.
من المعروف أن لكلّ مسؤول كبير أفكار كبيرة يتّقد حماسا لتحويلها على أرض الواقع. لكن من المعروف أيضا ان كلّ المجتمعات لها قابلية محدودة لتلقي الأفكار الجديدة مهما بدت جميلة و مفيدة، و يصعب الرّمي بكثير من الأفكار الجريئة في نفس الوقت لذلك يحتاج المسؤول الى برمجة اولوياته ليوزّع جهده الشخصي و جهد الفرق العاملة معه على حقبات زمنية مختلفة و يركّز في كل حقبة على فكرة جريئة أو اصلاح جوهري واحد، و ليسمح كذلك لعامة الناس و خاصة المعنيين بتبعات أفكاره و قراراته من هضم عناصر الجدّة في كل القرارات و الأوامر والتوجيهات الجديدة.
و تتعقّد الاشياء اكثر إذا فتحنا باب التشاركية و هو مبدأ أضيف ضمن دستور2014 و أسلوب حكم معلن في كل الخطب و التقارير الرّسمية في تونس و يتطلّب تنظيم استشارات حول كلّ القرارات الهامّة و كلّ هذا يترجم في شكل فترات زمنية إضافية ضمن عمر كل مشروع او مبادرة. أما إذا أردنا تطوير الحياة السياسية و الإرتقاء بها حسب مبدأ "الشعب يريد، و يعرف ما يريد"، فهذا يحتاج الى مخاضات فكرية عسيرة، هي ايضا وقت يضاف لكلّ قرار أو مشروع أو إنجاز.
كما تحتاج الافكار الجريئة الى ترسانة من القوانين الجديدة لتدخل حيز التنفيذ و الممارسة و كل قانون له مراحله و زمنه و هي فترة تمتدّ من نصف سنة على الأقل الى عدة سنوات.
الأفكار الجريئة و الجديدة تحتاج أيضا الى بعث مؤسسات أو تعديل مؤسسات موجودة و تحتاج الى مباني و الى فرق عمل و أساليب جديدة و كل هذا يترجم عمليا الى وقت لا يقلّ عن 6 اشهر في أحسن الأحوال، بين التصوّر و الإعلان و التنفيذ و المتابعة و قد يطول الى 3 سنوات و أكثر.
عندما يعي المسؤول الجديد برزنامته الفعلية، ليوزّع أهمّ مشاريعه الطموحة يجد نفسه امام زمن ديمقراطي متقلّص و عليه ان يغرس بكل جرأة وتواضع و واقعية مشاريعه على الرزنامة كما يغرس الفلاّح الاشجار المثمرة في مساحات متباعدة ليعطي لكل شجرة الفضاء الكافي للنمو دون تداخل او منافسة للأشجار الاخرى.
قد تكون الافكار الجديدة و الجريئة واضحة في عقل المسؤول او بعض مستشاريه، و لكنّها يجب ان تنقل و ان بشكل مبسّط الى عامّة الناس و بصفة اخص الى الآلاف المعنيين بتطبيقها أو بتبعاتها، مباشرة أو عبر وسائل الإعلام، و هذا يحتاج الى جهد تفسيري و توثيقي و تربوي pédagogie politique بهدف الشّرح و الإقناع و كل هذا يتطلب اجتماعات متكرّرة و حوارات مطوّلة و تقارير و تصريحات و طبعا هو عمر اضافي من عمر كل مشروع او فكرة جريئة.
انطلقت العهدة الديمقراطية الحالية في تونس، مع اعلان الانتخابات الرئاسية و التشريعية الجديدة في اكتوبر 2019 و تنتهي في اكتوبر 2024. و نحن اليوم في نهاية أفريل 2021 في رمضان المبارك وعلى أبواب صيف و عطل إدارية و قريبا سيكون موعدنا مع نهاية السنة الثانية من العهدة الديمقراطية في اكتوبر 2021. بقيت سنتين فعليتين من العهدة لأنّ السنة الاخيرة يصعب تخصيصها للأفكار الجريئة.
أضيفوا الى كلّ هذا تبعات و تعطيلات الوباء المستفحل دوليا منذ سنة و الذي خفّض لا محالة من قدرة التحرّك لكلّ المسؤولين و المؤسسات و المواطنين.
بقي 730 يوم من العمل الفعلي في الزمن الديمقراطي التونسي للعهدة الحالية، لا أكثر. كم مشروع طموح يمكن إعلانه بكلّ واقعيّة في أكتوبر 2021 و شرحه و تنفيذه على طوال السنتين المتبقيتين، و كم مشروع لم ينجز في السنتين الماضيتين؟.
عندما يواجه كل مسؤول كبير هذين السؤالين بصدق مع النفس سيصاب بدوار يقضّ نومه، كان الله في عونه. إنه الفساد السياسي الأعظم: هدر الوقت.
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 224631