الحقائق الخفية وراء تهويل أسطول السيارات الإدارية
منجي المازني
طالعتنا حكومة السيد المهدي جمعة بقرار أو بمشروع قرار يقضي بالتفويت في السّيارات الإدارية ووقف كل المنافع العينيّة المرتبطة بها من وصولات بنزين وقطع غيار... وابتهج الكثيرون فرحا بهذا القرار واعتبروه خطوة جريئة، هي بمثابة اللّبنة الأولى على طريق الإصلاح الإداري العميق ومحاربة الفساد. إلّا أنّ واقع الحال هو غير ذلك، إذ أنّ هذا القرار لا يعدو، في حقيقته، إلّا أن يكون زوبعة في فنجان. فقد أقدمت الحكومة على قرار التفويت في السّيارات الإداريّة للضغط على النّفقات وتوفير مبلغ 37 مليون دينار من جهة و صادقت من جهة أخرى على قرار يتعارض معه كلّيّا، لأنّه يمكّن أعوان المالية من الحصول على 22 في المائة من بعض مداخيل القباضات المالية ؟ وهو ما يمكن اعتباره نزيفا لا يقلّ أهمّية وخطورة عمّا قد تسبّبه السيّارات الإدارية
فبداية، تشكّلت هذه الحكومة على إثر توافق وطني أفرزه حوار وطني عسير لتكون حكومة تصريف أعمال لغاية الوصول بالبلاد إلى انتخابات. فالغاية الأساسية من تشكيل هذه الحكومة، إذن، هي التحضير والإعداد الجيّد لثاني انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة في تاريخ تونس، وليس بحث ومعالجة مواضيع ومسائل متشعّبة تقتضي لا فقط إصلاحات جوهرية في كل القطاعات بل و تستوجب كذلك سحب العدالة الاجتماعية على جميع الناس بطبقاتهم المختلفة.
طالعتنا حكومة السيد المهدي جمعة بقرار أو بمشروع قرار يقضي بالتفويت في السّيارات الإدارية ووقف كل المنافع العينيّة المرتبطة بها من وصولات بنزين وقطع غيار... وابتهج الكثيرون فرحا بهذا القرار واعتبروه خطوة جريئة، هي بمثابة اللّبنة الأولى على طريق الإصلاح الإداري العميق ومحاربة الفساد. إلّا أنّ واقع الحال هو غير ذلك، إذ أنّ هذا القرار لا يعدو، في حقيقته، إلّا أن يكون زوبعة في فنجان. فقد أقدمت الحكومة على قرار التفويت في السّيارات الإداريّة للضغط على النّفقات وتوفير مبلغ 37 مليون دينار من جهة و صادقت من جهة أخرى على قرار يتعارض معه كلّيّا، لأنّه يمكّن أعوان المالية من الحصول على 22 في المائة من بعض مداخيل القباضات المالية ؟ وهو ما يمكن اعتباره نزيفا لا يقلّ أهمّية وخطورة عمّا قد تسبّبه السيّارات الإدارية
فبداية، تشكّلت هذه الحكومة على إثر توافق وطني أفرزه حوار وطني عسير لتكون حكومة تصريف أعمال لغاية الوصول بالبلاد إلى انتخابات. فالغاية الأساسية من تشكيل هذه الحكومة، إذن، هي التحضير والإعداد الجيّد لثاني انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة في تاريخ تونس، وليس بحث ومعالجة مواضيع ومسائل متشعّبة تقتضي لا فقط إصلاحات جوهرية في كل القطاعات بل و تستوجب كذلك سحب العدالة الاجتماعية على جميع الناس بطبقاتهم المختلفة.
فموقف المواطن الذي فرح لمثل هذا القرار إنّما بناه واتخذه لاعتباره أنّ الموظفين إنّما يسرقون المال العام عندما يستغلّون السّيّارات الإدارية بحق أو بدون حق. ولكن هذا المواطن ذاته لا يرى نفسه يسرق الدولة عندما يتاجر في السلع المهرّبة أو يتهرّب من دفع الضّرائب و الأداءات. كما أنّ هذا المواطن لا يرى نفسه يسرق الدولة عندما يستولي على الأرصفة والطرقات ويشيد عليها دكاكين لعرض وبيع البضائع. بل إنّ هذا المواطن لا يرى نفسه يسرق المال العام عندما يقوم بإضرابات في وقت حسّاس ودقيق وعندما يبتزّ الدولة ويجبرها على المصادقة على قرارات تمكّنه من الحصول على منح تكميلية تفوق بكثير ما يتحصّل عليه الموظف المتمتّع بسيارة إدارية.
فأصل الموضوع ليس في السيّارة الإدارية ولكن في الشّهرية أو الرّاتب الذي يتقاضاه الموظف في آخر الشهر وفي مدى تطبيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين كل الموظفين. وأصل الموضوع لا ينحصر في سيارة إدارية بل هو أعمق من ذلك بكثير وهو نتيجة تراكم مشاكل منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا. وهو نتيجة سوء تصرّف وسوء إدارة وتقصير في توزيع الثروات بالعدل على كل الناس وبصفة خاصّة على كل الموظّفين.
فالبعض من علية القوم ممن يتبوؤون مناصب مرموقة في الوظيفة العمومية لا تروي ضمأهم الوظيفة العمومية. فتراهم يساهمون من منطلق وظيفتهم السّامية في إحداث المؤسّسات شبه الحكومية وفي إعداد قوانينها الأساسية، ويسندون رواتب مرتفعة لا مقارنة لها مع رواتب موظّفي الوظيفة العمومية تصل أحيانا إلى الضعف أو أكثر. ثمّ هم يساهمون فيما بعد في تعيين أنفسهم وأقاربهم وأصحابهم على رأس وداخل هذه المؤسّسات. وكدليل على صحّة ما نقول أنّ المديرين العامّين أو الموظفين السامين الذين أشرفوا على بلورة هذا القرار ضمنوا لأنفسهم قبل غيرهم منحة 800 دينار لقاء تفويتهم في السيارة الإدارية وتركوا بقية الموظفين في حيرة يحيط بهم الضّباب من كل مكان. وكان من نتيجة هذا الجشع أن اتسع الفارق بين راتب موظف المؤسسات شبه الحكومية وراتب موظف الوظيفة العمومية. وعندما يطرح الموضوع للنقاش تكون الحجّة جاهزة : المؤسّسات شبه الحكومية هي مؤسّسات منتجة وموظّفوها هم من ينتجون ويساهمون في تحقيق مرابيح محترمة لفائدة الدولة. وهذ عذر أقبح من ذنب. فهل أحدثوا هذه الشركات بأموالهم الخاصّة حتّى يقتسموا الأرباح ؟ ذلك أنّ الموظفين سواء الراجعين بالنظر إلى الوظيفة العمومية أو إلى المؤسّسات شبه الحكومية هم يديرون مصالح ويتصرّفون في موارد تابعة للدولة. ممّا يعني أنّه لا يوجد سبب وجيه ومقنع لتعميق الهوّة بين موظفي القطاعين.
وأمام التفاوت الشاسع في الرواتب بين موظفي الدولة، وسعيا لتقليص الهوّة يتشبث موظّفو الدولة بما من شأنه ضمان راتب يؤمّن الحدّ الأدنى من الطّلبات اليومية والضرورات الحياتية. فضمن الموظفين من يتشبث بحقه في التمتّع بسيارة إدارية ومنهم من يتشبث بحقّه في التمتّع بالمنح التكميلية.
كما لا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن الوضع الانتقالي المضطرب، بفعل الثورة، جعل العديد من القطاعات تتجرّأ على الدولة وتتمرّد عليها وتبتزّتها بالاعتصامات والإضرابات المتواصلة التي أفضت في نهاية الامر إلى الانقضاض على العديد من موارد الدولة واغتصابها من أصحابها الحقيقيين. يضاف إلى ذلك أن الثورة قد أماطت اللّثام عن الوجه القبيح لعديد الفئات الجشعة والأنانية. ففي الوقت الذي خاض فيه بعض الناس النضالات والمظاهرات من أجل اجتثاث الاستبداد من البلاد وقدّموا في ذلك التضحيات الجسام استغلّ البعض الآخر هذا الوضع الانتقالي وقاموا باعتصامات من أجل السطو على موارد الدولة واقتطاع زيادات خياليّة لأنفسهم بالقوّة. وتضرّر نتيجة لذلك فئات عديدة نذكر منها شرائح كبيرة من أعوان الوظيفة العمومية.
لذلك فيمكن القول بأن إسناد سيارة إدارية هو بمثابة إسناد منحة تكميلية لتقليص الفارق الشاسع بين أعوان المؤسسات شبه الحكومية وأعوان الوظيفة العمومية.
النقطة السوداء الوحيدة في الموضوع تنحصر في سلوك بعض المسؤولين الذين لا يعدلون بين الأعوان عند توزيع وإسناد السيارات الإدارية. وتعود العملية برمّتها إلى الحالة النفسية لهذا المسؤول أو ذاك. وتوزع السّيارات في أحيان كثيرة لا على أساس معايير موضوعية من قبيل الوظيفة والرتبة والجدارة والأقدمية ولكن على أساس الموالاة والمحاباة وعلى أساس درجة الطّاعة والولاءات والمناشدات وعلى أساس مدى التقيد بالتعليمات والتوجّهات وتوجيهات السيد الرّئيس وإن كانت خاطئة. وهذه مصيبة أخرى. فالسّيارة الإدارية التي هي في الحقيقة منحة تكميلية أصبحت تستغلّ في كثير من الأحيان كورقة ضغط من أجل إشباع غريزة الأنا ومن أجل تحقيق مكاسب مادية. وهذا السلوك يتسبّب في انتشار التباغض والتنافر والتحاسد والعداوة بين الموظّفين. وكنتيجة لهذه السلوكيات قد يتمتّع مهندس بسيارة إدارية منذ تاريخ انتدابه فيما لا يتمتّع بها زميله على مدى عقد أو عقدين من الزمن. ليس هذا فقط بل قد يتمتع مستكتب إدارة بهذه السيارة ويحرم منها مهندس عام جرّاء مواقفه التي لا ترضي المسؤول. فكيف يسمح مسؤول لنفسه بتكريس وبثّ التفرقة بين الموظفين. ثمّ كيف يستطيع هذا المسؤول أن ينام قرير العين هادئ البال وهو ينزع حقوق البعض ليمنحها للبعض الآخر، لا لشيء سوى لأن هؤلاء مطيعون ينفّذون الأوامر دون نقاش و أولئك يناقشون الأوامر قبل التنفيذ. وهو ما لا يبرّر قطّ جنوح بعض المسؤولين من التعسّف عليهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة واختلاق الأزمات لهم في كل فرصة و في كل مناسبة.
و لا يفوتنا الإشارة إلى أن هناك إفراط في استعمال سيارات المصلحة لأغراض شخصية وإفراط في استغلال وصولات البنزين.
وفي المحصّلة يجب أن يعالج الموضوع في إطار أوسع وأشمل وفي إطار الحرص على تطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة قصد تقليص الهوّة بين موظفي المؤسسات شبه الحكومية والمؤسسات الحكومية، وعلى قاعدة الرجل وبلاءه والرجل وحاجته أو على قاعدة الموظف وخطّته الوظيفيّة ورتبته وأقدميته في الرتبة وفي الإدارة لا على قاعدة التمييز والمحاباة.
* عضو نقابة مهندسي التجهيز
Comments
18 de 18 commentaires pour l'article 84926