الزيارة الجزائرية لتركيا: الأهداف والدلالات والانعكاسات، على ضوء ما يجب أن نفهمه في تونس
أيمن عبيد (*)
ان فهم زيارة الرئيس الجزائري لتركيا، في دلالاتها وأهدافها فضلا عن انعكاساتها المركّبة على منظومة التحالفات الإقليمية عموما وما قد تلقيه من ظلال على المشهد التونسي على وجه الخصوص، لن يستقيم أبدا بالاقتصار على تأويل نصوص التصريحات، او الاستغراق في رصد الإجراءات البروتوكلية للزيارة، او حتى بمجرد ربطها ببعض مما سبقها خلال الأشهر الأخيرة من محطات ديبلوماسية هامة في المنطقة، كما هو الحال في أغلب ما تداولته النخب الاعلامية والسياسية التونسية، المستغرقة بطبيعتها في ما يصطلح على تسميته في العلوم السياسية ب"الطبقة الهشّة من السياسة" أي؛ لحن الخطابات وصور اللقاءات، والتي لا تفضي في معظم الأحيان، لأكثر من تحاليل رغائبيّة، يفسّر فيها كل طرف المستجدات بما يتناسب مع امكانية توظيفها لصالحه ضمن الصراع والتجاذبات الداخلية.
اذ أن الفهم الدقيق والموضوعي لمثل هاته التحولات في حقل العلاقات الدولية، يستدعي بداية الالمام الواسع بالمحدّدات الاستراتيجية لكل من البلدين، مع اطلاع جيّد على الميكانيزمات الداخلية لصناعة القرار في كل من النظامين، وهذا ما سنحاول التطرق اليه بشيء من السرعة في هذه الورقة، من خلال بعض الملحوظات أو الإثارات التي نراها ضرورية لتجويد وعينا بمعاني الزيارة المذكورة:
1ـ هذه الزيارة الأولى لرئيس جزائري لأنقرة منذ 17 سنة (15 سنة في عهد بوتفليقة مع سنتين في عهد تبون)، وهي تقريبا الفترة التي عايشت فيها الديبلوماسية الجزائرية ما يشابه الموت السريري، منذ مرض رئيسها الراحل عبد العزيز بوتفليقة رحمه الله، فضلا عن أن العلاقات بين البلدين قد عرفت برودا لاعتبارات كثيرة ومتعددة منذ تأسست بين الجمهوريتين، أي منذ تأسيس الجهورية الجزائرية في 1962. ولعل موافقة هذه الزيارة للذكرى الستين لتأسيس الدولة الوطنية في الجزائر، كما أشار gذلك تبون في أكثر من مرة خلال تواجده بإسطنبول، تحمل رمزية ما، او أريد في الحد الأدنى ترويجها ديبلوماسيا واعلاميا، كمؤشر عن تأسيس جديد للعلاقات بين البلدين أو عن انعطافة استراتيجية كبرى فيها، توازي في أهميتها لحظة التأسيس.
2ـ رغم استئناف الديبلوماسية الجزائرية لنشاطها تدريجيا، منذ تولي بوقادوم لوزارة الخارجية في مارس 2019 اثر انتخاب السيد عبد المجيد تبون رئيسا، الا أن الصحوة الفعلية للديبلوماسية الجزائرية واتخاذها لنسق وخطوات جدية نحو استعادة ادوارها التاريخية، يمكن ارجاعه الى تاريخ 25 جويلية 2021، وهو تاريخ التزكية الرسمية للحكومة الجديدة ومن ضمنها رمطان العمامرة وزير الخارجية الجديد. وقد ارتكزت هذه الانطلاقة الجديدة على جملة من العوامل، لعل أهمّها:
· التقدم المهم الذي احرزته وزارة بوقادوم في اعادة ترتيب الأوراق وتحريك الملفات وتمهيد الطريق نحو استئناف الفاعليّة.
· تقدم البناء السياسي الجديد لجزائر ما بعد الحراك، بإنجاز انتخابات رئاسية ومن ثمة تشريعية، والوقوف على أبواب اجراء أخرى محليّة حينها.
· التقدم في احراز المصالحة الداخلية بين أجنحة النظام القديم (مجموعة رئاسة الأركان بقيادة القايد صالح، مجموعة رئاسة المخابرات وعلى رأسها الجنرال توفيق، مجموعة رئاسة الجمهورية بقيادة السعيد بوتفليقة) مع النظام الجديد.
· وكذلك الأحداث الطارئة في الخاصرة الشرقية تونس التي دقت نواقيس الخطر لدى العقل المؤسساتي للدولة الجزائرية.
3ـ انطلقت هذه الصحوة الديبلوماسية تحت عنوان مفتاحي، يكتسي ادراكه أهميّة شديدة في فهم السياسات الخارجية الجزائرية منذ 2020، وهو: "الجزائر الجديدة".
اذ أن هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة، معبرة عن قراءة جديدة للأدوار الخارجية للجزائر، او هي بالأحرى عصارة ما تحصّل لدى العقل المؤسساتي الجزائري من قناعات، بعد قراءة معمقة لعشرية الربيع العربي في المنطقة وما صاحبها على المستوى الدولي والتكنولوجي من تحولات وتحديات كبرى. الجزائر الجديدة بكل اختصار تسعى لإعادة التموقع الاستراتيجي على الساحتين الدولية والإقليمية، وذاك ما يستدعي منها لزاما اعادة صياغة كل علاقاتها الثنائية وحتى تلك المتعددة الاطراف، مع كل الشركاء والفاعلين بدون اي استثناء.
وقد ورد هذا المعنى على لسان لافروف خلال زيارته الاخيرة للجزائر، بحديثه عن انطلاق مرحلة اعادة صياغة العلاقات بشكل غير مسبوق. كما ان نفس المعنى يظهر جليّا أكثر، بمتابعة ما عرفته العلاقات الجزائرية مع الإمارات من انعطافة حادة بعد الحراك مثلا، او من خلال السعي الحثيث لوضع علاقات التعاون مع إيطاليا على طريق الارتقاء نحو الشراكة الاستراتيجية، وبشكل مشابه، ولكن بأقدار أقل من النجاح مع اسبانيا، وفي المقابل التوترات البينية المتكرّرة مع باريس او المحاولات المتذبذبة لطي صفحة الجفاء التاريخي مع القاهرة الخ......
4ـ في هذا السياق العام، تنزّلت ضرورة اعادة النظر في طبيعة العلاقات مع الجمهورية التركية واعادة صياغتها. ولكنّ هذا المعطى العام، قد كان في الحالة التركية معزّزا بآخر ذاتي/شخصي لا يقل أهمية؛
اذ أن القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع ورئيس الجمهورية الجزائرية الحالي، عبد المجيد تبون، وهو البيروقراطي المخضرم، الذي تقلّب خلال العقود الخمس الأخيرة بين مهام وخطط مختلفة في الدولة، وأهمها تلك التي تولى فيها في أكثر من حكومة وزارة السكن والعمران، التي تسنّى له من خلالها مراكمة تجربة جد ايجابية في العمل المشترك مع الأتراك. اذ تمكّن من تطوير شراكات وازنة مع عمالقة القطاع التركي الخاص للمقاولات من ناحية، ومع الأجهزة الخارجية للجمهورية التركية الناشطة في نفس المجال وعلى رأسها "التيكا" من ناحية اخرى.
حيث تحوّل مجال البناء والبنى التحتية والمقاولات الكبرى تحت اشراف تبون، الى المجال الرئيسي لاستثمارات تركيا في الجزائر ولنشاط شركاتها فيها (تفوق 1200 شركة)، حتى دفع هذا التطوّر المطّرد تركيا، لتنال مرتبة المستثمر الخارجي رقم واحد في الجزائر، بحجم استثمارات يفوق ال 5 مليار دولار والتي من المنتظر الدفع بها إلى 10 مليارات في أفق السنوات القادمة.
وعلى أهميّة هذا المعطى الصلب في التعاون الاقتصادي (تطور الاستثمارات وما تبعه/صاحبه من ارتفاع للمبادلات التجارية)، والذي مثّل مدخلا رئيسيا لإعادة صياغة العلاقات الثنائية بين الجمهوريتين، الا أن هذه السنوات الطويلة من العمل والانجازات المشتركة، قد راكمت لدى عبد المجيد تبون اضافة لذلك، شبكة من العلاقات الشخصية الوطيدة والمتفرّعة مع الجانب التركي. كما أنّها بلا شكّ قد تركت بصمتها واضحة في تشكّل قراءات الرئيس الجزائري الجديد، لآفاق الشراكات الخارجية الممكنة لبلاده، وخاصة منها تلك الفرص المعطّلة في المنطقة، وبالتحديد في اتجاه "نمور الأناضول".
5ـ ومن هنا يروج أن عبد المجيد تبون منذ توليه الرئاسة وحتى قبلها كموظف سامي ووزير او كرئيس حكومة (2017) سابق، قد بدأ فعلا في النجاح في ايجاد داعمين للتوجه الجديد نحو تركيا، صلب البيروقراطيتين المدنية وخاصة العسكرية في الجزائر، التي مثلت منذ الاستقلال العنصر الرئيسي في هندسة الاستراتيجيات الكبرى للجزائر وخاصة الخارجية منها.
وان الشائع عن التيار المتحمّس للتوجه نحو تركيا في الجيش الجزائري لا يقول أبدا بأغلبيّته او كثرة داعميه، ولكن المناخ العام او الخط الرئيسي في الجيش الجزائري ما بعد القايد صالح، ينحو نحو الأهواء الأوراسية بدون أي شك، وذلك واضح ومعلوم عن رجل النظام القوي في الجزائر، رئيس أركان الجيش الحالي، الفريق سعيد شنقريحة (علاقات وثيقة مع الكرملين، نفور شديد من فرنسا، مع موقف حاد من المغرب)، مما ساعد في ادماج التطوير المناط بالعلاقات الجزائرية التركية، ضمن الرؤية العامة للجزائر الجديدة.
6ـ ربما تعتبر هذه الزيارة/الفترة اللحظة الأهم فعلا، في التاريخ البيني للجمهوريتين، وأن علاقة كل منهما بالآخر تعيش خلال هذه الأيام ذروة استئنافها أو ولادتها الجديدة، منذ انهيار علاقة الدايات بالباب العالي بشكل فعلي تقريبا بخسارة معركة نافارين سنة 1827 التي تعتبر لحظة إذلال تاريخي مشترك، بل ولحظة مفصلية في تاريخ بحيرة العالم القديم (البحر الأبيض المتوسط) بانتهاء عصر "البحيرة الاسلامية" أو "بحر الخلفاء"، وانهيار البحرية الإسلامية بشكل غير مسبوق، منذ صعودها الأول في عهد الأغالبة قبل قرون خلت.
ومن ثمة انهارت العلاقات تماما باحتلال الفرنسيس للعاصمة الجزائرية في 1830 وانهيار حكم الدايات فيها. وهنا بالضبط يقع في تقديري، موقع هدية اردوغان ومعناها، والمتمثلة في: "رسالة من المجاهد الكبير الأمير عبد القادر الجزائري (رحمه الله) للخليفة العثماني."
اذ أنه وبعد سقوط العاصمة، لم يتمكن الفرنسيس من احتلال كامل التراب الجزائري (القارة الجزائرية) مباشرة، اذ قامت ثورتان لمقاومة الغزو الفرنسي تحولتا الى دولتين، او أن احداهما بالأحرى مثلت بشكل او بآخر امتدادا لدولة الدايات، حيث قادها أحد رجالهم الأقوياء في الشرق (أحمد باي) فاتخذ من قسنطينة عاصمة له، واما في الغرب فقد قامت ثورة الأمير عبد القادر، والذي أسس بدوره لدولة في الغرب الجزائري لاحقا.
ومن الطبيعي ان نتوقّع، أن طبيعة التنافس الذي قام بين الدوليتين الجزائريتين الناشئتين حينها والذي وصل الى حدود الصراع أحيانا كثيرة، قد جعلت من الباب العالي في اسطنبول يقف داعما للعلاقات مع أحمد باي على حساب الأمير عبد قادر. او أن هذه السردية الرائجة على الاقل في الاوساط الأكاديمية الجزائرية. ويبدو أن الهدية، قد أرادت بالضبط تحريك هذا الموضع، الذي يمكن اعتباره حساسا في الذاكرة المؤسساتية للجمهوريتين. اذ ان الجمهورية الجزائرية او الدولة الوطنية في الجزائر ومن قبلها ثورة نوفمبر، ترى جذورها وأبوتها التاريخية في الأمير عبد القادر، لا في أحمد باي، ولا تخفى في تاريخ جهاد الأمير عبد القادر في الجزائر، مشاعر المرارة من خذلان الخلافة العثمانية، لمقاومته وجهاده.
يبدو أن هدية اردوغان لتبون، قد أرادت افتتاح الصفحة الجديدة بين الجمهوريتين، بإضاءة تاريخية، تواسي ذاك الجرح القديم في الذاكرة، وتظهر جوانب اخرى ايجابية قد تكون مسهو عنها في العلاقة الفعلية التي كانت قائمة بين السلطنة والامير عبد القادر. وهذا ما يؤشّر على نيّة الأتراك الجادة كذلك في جعل هذه الزيارة، محطة تأسيسية رئيسية للعلاقة بين الجمهوريتين، اذ أن المدرسة الديبلوماسية السائدة في تركيا العدالة والتنمية على الأقل وكتابات عرابها البروفيسور أغلو، تدرج الذاكرة التاريخية كعنصر ثابت ومرتكز صلب، ضمن معادلات هندسة الفعل الخارجي للدول.
7ـ طبعا لا يمكن استغراب، عمق ودقة الوثيقة القادمة من ارشيفات السلطنة، فيكفي فقط ان نتابع الأعداد المتزايدة (منذ سنوات) للأكاديميين الجزائريين المنخرطين في الحقل البحثي التركي (جامعات، معاهد دراسات، مراكز بحثية، منتديات...)، وهو حضور وانخراط ملفت ومتميز كمّا ونوعا، حتى نتوقع كثافة وعمق الجهود المبذولة من الطرفين، لتصميم السردية المتينة ووضع الأسس النظرية اللازمة، لتحقيق الوثبة الاستراتيجية في العلاقات بين الجمهوريتين.
8ـ لا يخفي الأتراك منذ اعلانهم عن استراتيجية "تركيا الكبرى" (Büyük Türkiye)، سعيهم الحثيث لإعادة مد الجسور نحو العالمين الإسلامي والتركي، من خلال البحث عن شركاء موثوقين أو ما يسمى في الجيوبوليتيك ب "دول المركز" في كل إقليم أو منطقة جغرافية. ورغم النجاحات المحترمة التي حققتها هذه السياسة بنسب متفاوتة في مناطق مختلفة من العالم (آسيا الوسطى، شرق آسيا، الخليج، القرن الافريقي.. (، الا ان تقدمها في شمال افريقيا ظل ربما الأكثر تأخرا أو تعثرا. ولذلك فيبدو أن العقل الاستراتيجي التركي، كان يتابع باهتمام شديد ومتأهب، صعود تبون الى سدة الحكم في الجزائر مع كل ما لهم لديه من رصيد، فكانوا شديدي الحرص على اقتناص اللحظة الديبلوماسية التي قد تكون فعلا تاريخية، ليكون رجب طيب أردوغان اول رؤساء العالم زيارة لتبون من أجل تهنئته إثر انتخابه رئيسا، بعكس ما جرت به التقاليد الديبلوماسية النافذة في المنطقة منذ عقود من الزمن.
9ـ لقد مثلت تلك الزيارة في 2020 فعلا تحولا مفاجئا في المنطقة، أربك الأجواء والحلفاء، فاذا بالإمارات توفد الى الجزائر على عجلة وبدون سابق برمجة، وزير خارجيتها بعد يوم واحد من زيارة أردوغان. وما زيارة هذه الأيام في الحقيقة، الا الجزء الثاني من ذلك الفصل، والذي عرف طيلة السنتين الفارطتين اعدادات مكثفة، لعل أبرزها وآخرها زيارة جاويش أوغلو في 25 أوت الفارط للجزائر، والتي أعلن خلالها، عن اقتراب انتهاء التحضيرات اللازمة لزيارة الدولة المنتظرة، والتي من المقرر خلالها إطلاق مجلس الحوار الاستراتيجي لأول مرة بين الجمهوريتين. وهنا وجب التفطن إذا، الى أن الزيارة لم تكن قرارا آنيا مرتكزا الى تطورات وسياقات ظرفية بالأساس، بقدر ما هي محطة وازنة وبارزة في مسار تراكمي استراتيجي من البناء، وأما السياقات الأخيرة في المنطقة والعالم، فقد هيأت لها المناخات وسهلت تسريع إنجازها لا غير.
10ـ وهنا يكمن معنى مهم، في خصوص تموقع الجزائر الجديدة ضمن خارطة الاحلاف الإقليمية. فمنذ الزيارة المذكورة لأردوغان وما تبعها من قلق في الخليج والشرق الأوسط (ومن المؤكد في باريس كذلك)، فقد تفاعلت الدولة الجزائرية مع هذا السياق، من خلال التأكيد على معنى أصيل في ديبلوماسيتها، منذ انخراطها من مواقع متقدمة في تأسيس دول عدم الانحياز، وأكدته سياساتها الإقليمية خلال السنتين الفارطتين، تحت عنوان؛ „ المسافة الواحدة".
اذ أجابت الجزائر على القلق المذكور، بجعل اول زيارة خارجية للرئيس تبون تتجه نحو الرياض، لموازنة تموقعها ضمن الصراعات القائمة حينها. ولا يقتصر هذا التوجه العام على سياسات الجزائر في المنطقة، بل يتعداها بوضوح للمسرح الدولي، فحين استقبالها لسيرجي لافروف خلال الأيام الفارطة مثلا، ورغم العلاقات التاريخية والشراكات المعمقة التي تجمعها بالكرملين، فقد استقبلت الجزائر بعد ساعات فقط من مغادرته لها، جنرالا ألمانيا رفيع المستوى برتبة مدير لقيادات الأركان في الناتو. وعلى غرار ذلك فقد استقبل عبد المجيد تبون، بعد ساعات من عودته من تركيا، وزير الخارجية السعودي، الذي أكد في تصريح له على توافق تام في قراءات المشهد الإقليمي بين البلدين الشقيقين. زد على ذلك، فاننا لو رصدنا الموقف الجزائري طيلة الربيع العربي، لما وجدنا الا قليلا مما يمكن حمله، على عدم التوازن أو الانحياز، نحو أحد المحاور الثلاثة (ايران/تركيا/الامارات-اسرائيل) على حساب المحورين الآخرين، الى درجة تجعلها تنزلق الى صراعاتهم، حتى عرف عنها ما اصطلح المتابعون على تسميته بسياسة "شدّ الحبال".
11ـ وبالتالي لا يجب علينا أن نفهم هذا التطور الأخير في العلاقات الجزائرية التركية، كاصطفاف لمحور على حساب آخر بمنظور مع او ضد، بقدر أن نتفطن، الى أن السياق العام لإعادة ترسيم شبكة العلاقات الإقليمية في المنطقة، وخاصة جوانبه الخاصة بتذويب الجليد بين تركيا والمحور المصري السعودي الاماراتي من ناحية، ومساعي تدوير زوايا الخلاف بين تركيا ونظام الأسد في سوريا من ناحية أخرى. لقد سهلت هذه السياقات مهمة التقدم في العلاقات مع تركيا أمام صانع القرار الجزائري، فقد خفضت من انعكاساته على منظومة أحلافه التقليدية في العالم العربي، فبعد استقبال أردوغان في كل من الرياض وأبو ظبي خلال الأشهر الفارطة فإنه ليس لأي من هاته العواصم ان تحتج أو تستاء، طبعا إذا ما استثنينا القاهرة وفيها مربط الفرس.
هذا لا يعني انتهاج الجزائر للحياد السلبي كما نفهم في تونس الحياد، انما هي حريصة على الفعل والتأثير في المشهد الإقليمي من موقع متزن، يلائم بين المصالح حيث تتقاطع الرؤى ويرسم خرائط التحالف مع كل طرف على قدر رقعة الربح المشترك معه. والقراءات التركية للمشهد الليبي لا شك تتقاطع بدرجة عالية مع نظيرتها الجزائرية، وبقدر ودرجة أقل ربما في المسألة التونسية. ولا شك كذلك أن سياسات القاهرة متعارضة تماما مع كل ذلك، ونحن بذلك لا ننكر أن هاته الزيارة قد تفهم في جانب ما، على أنها مناورة ديبلوماسية في سياق التجاذبات الأخيرة بين قصري الاتحادية والمرادية، الا أن ذلك لا يمكن أن يتعدى معنى الدلالة الفرعية الهشة أو الدافع الثانوي العابر للزيارة، كغيره من الظرفيات الطارئة الأخرى او السياقات الملائمة العديدة، من قبيل؛
· السياق الانتخابي في تركيا، والذي يجعل أردوغان حريصا على التسويق لكل ما يمكن أن يفهم كتقدم في فتح آفاق اقتصادية جديدة.
· المناكفة الديبلوماسية في سياق التنافس التركي الفرنسي.
· المناورة الديبلوماسية في سياق تعثر خطوات التطبيع بين أنقرة والقاهرة.
· تقارب المواقف التركية الجزائرية حيال الحرب الأوكرانية، وامكانيات تكامل مساعي كل منهما في الوساطة.
بالإضافة الى كل ذلك، فإن مفهوم "صانع الاستقرار" المتداول بكثرة في الحقل الأكاديمي الجزائري خلال السنوات الأخيرة، لا يعكس فهم الانتليجانسيا الجزائرية للأدوار الخارجية المناطة ببلدهم فحسب، انما هو في الحقيقة استدعاء تجديدي للعقيدة التاريخية للديبلوماسية الجزائرية، والذي راكمته أدوارها الرائدة ضمن مدرسة "ديبلوماسية الوساطة"، حيث لعبت أدوار تاريخية في:
· توقيع اتفاقية الجزائر 1975 والتي انتهى بمقتضاها النزاع الحدودي بين العراق وإيران.
· تحرير ركاب طائرة "دي.سي9 " التي خطفها الإرهابي اليساري كارلوس في نفس السنة.
· الوساطة لتحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران 1981.
· اتفاقية السلام بالجزائر سنة 2000 لتسوية الحرب بين اثيوبيا وارتريا.
ومن هنا فإن الجزائر الجديدة قد جعلت الرهان الأهم أمام صحوتها الديبلوماسية، متمثلا في النجاح في استضافة القمة العربية في دورة تاريخية تحت اشرافها، لتحتضن ما يشبه التوافق الكبير في المنطقة، او اعلان مرحلة جديدة تطوي ما صاحب عشرية الربيع العربي من صراعات متأججة في المنطقة، على شاكلة قمّة الانتفاضة 1988 الغير عادية في الجزائر، التي مهّدت الطريق الى انهاء أزمة العلاقات العربية-المصرية، بعودة هذه الأخيرة الى الجامعة العربية بعد 10 سنوات كاملة من الغياب والقطيعة العربية.
كذلك فان صانع القرار الجزائري يعي جيدا أن اتجاه المنطقة نحو فصل من الاستقرار، يكاد يكون نقطة توافق استراتيجي لجملة الفاعلين الدوليين، وخاصة ضمن القوى الغربية ذات النفوذ الأهم في المنطقة العربية، بما يجعل الجزائر أمام فرصة تاريخية فريدة، لإدماج استراتيجيتها الذاتية ضمن الاستراتيجية الدولية القائمة ومن أجل التأثير في السياقات الإقليمية السائرة. بما يجعلها تنزل بثقلها وتعبئ كل أدواتها، لجعل القمة العربية التي ستحتضن، محطة مفصلية، في تشكل المنظومة الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط الكبير، تحت عنوان: "حلول اقليمية من أجل المشاكل الإقليمية."
ولذلك فلا ينتظر أن تتزحزح الجزائر عن مسارها الوسط بين المحاور الاقليمية (السائلة بطبيعتها)، ولاهي تملك النية على تأبيد تجاذباتها مع القاهرة او حتى التصعيد فيها فوق المستوى المعقول، فلا يستقيم بطبيعة الأشياء مشروع توافق او استقرار في المنطقة العربية يتجاهل مصر أو يستثنيها. بل ان من طرائف الأمور أن يركز المدافعون عن الديموقراطية ـوهم من يهمني أمرهم لأني منهم ـ على اختزال زيارة تبون لتركيا تقريبا في أنها صفعة لمصر، في حين أن انطلاقة مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة والقاهرة، قد احتضنتها الجزائر على أراضيها، عبر اجتماع أمني عالي المستوى لملحقين عسكريين مصري وتركي في 2018.
آفاق التعاون الجيوستراتيجي بين تركيا والجزائر
دون الخوض في البعد الاقتصادي، الذي نال نصيبه وأكثر في التقارير الاعلامية، فيمكننا أن نتناول إضاءات في آفاق التعاون الجيوستراتيجي بين البلدين:
· تحولات شرق المتوسط
فلطالما مثلت الجزائر قلعة بحرية اسلامية، او لعل في الامر استدعاء لذاكرة المنظومة البحرية الإسلامية التي سبقت لقرون طويلة معركة نافارين (التي شاركت فيها البحرية المصرية للتاريخ)، وحتى دون الاستغراق في رومنسية عناصر التاريخ او حتميات الجغرافيا، فإن الجزائر الجديدة مهتمة بترسيم حدودها البحرية مع إيطاليا واسبانيا، وهي ذات تطلع للعب أدوار تتماشى مع المتغيرات في المتوسط، بادراك ما امكن من فرصه، وتفادي ما امكن من تكاليفه او مخاطره، وهي ليست الوحيدة في ذلك، فموضوع اعادة ترسيم الحدود البحرية والجروف القارية، يأخذ مساحات في الجدل السياسي بكل دول الحوض تقريبا (الا تونس)، بل ان جلسات البرلمان الايطالي، قد تداولت في مقترح حزب حاكم، لضرورة اعادت ترسيم الحدود الايطالية (من ضمنها حدودها مع تونس) بما يتماشى مع ادوارها التاريخية حسب أقوالهم.
من ناحية أخرى فان تركيا تسعى فعلا منذ سنوات في تنزيل استراتيجيتها البحرية الجديدة المسماة ب "الوطن الأزرق" (Mavi Vatan)، والقائلة : "أقوياء في وطننا الأزرق، آمنون في وطننا الأم". ان ما يعبر عنه هذا الشعار، من شعور المؤسسة العسكرية التركية، بأن الأمن الوجودي لشعبها يقتضي منها تواجدا قويا خارج حدودها وبالذات في شرق المتوسط، تتقاطع تقريبا مع نفس القناعة المستخلصة من عشرية الربيع العربي لدى العقل الإستراتيجي الجزائري، الذي أضحى على قناعة تامة، بأن ضمان أمنه الوطني أصبح يحتاج منه تجاوز الاقتصار على حماية حدوده الى الخروج للمساهمة في تشكيل منظومة استقرار إقليمي. ويعتبر هذا التغيير الأهم الذي طرأ على العقيدة الدفاعية للجزائر الجديدة، والذي وقع تثبيته من خلال التغيير الدستوري الشهير، والذي أقر ولأول مرة للقوات المسلحة الجزائرية منذ تأسيس الجمهورية، في الحق في اجراء عمليات خارج الحدود. إذا فالبلدان يشتركان في قناعتهما بأهمية ما يمكن تسميته في الجغرافيا العسكرية بخطوط الدفاع المتقدمة، كتوجه استراتيجي ذاتي لكل منهما، وأمامهما مساحات تأثير إقليمي متقاطعة جغرافيا، بما يفتح أمامهما فرص تعاون استراتيجي في تلك المناطق وعلى رأسها شرق المتوسط. في الأخير يبقى البناء والتقدم في هذا الاتجاه وغيره رهين السياقات ومدى النجاح في تنزيل الاتفاقيات الأخرى، ولكن لكل من البلدين أرصدته وأدواته ومساحة تأثيره ولكل منهما ما يقدمه للآخر.
التدافع نحو افريقيا
ان ما يسمى ب „الهرولة او التدافع العالمي الجديد نحو افريقيا" (The new Scramble for Africa) ليس ببعيد عن مصالح ومطامح وأدوار كلا البليدين، وهذا ما يفتح في أفقه فرص ومساحات تعاون استراتيجي. ولكن هنا يجب أن ننبه الى الحساسية الخاصة التي توليها الجزائر، لأي تنامي زائد عن العادة لأي نفوذ خارجي في دول طوقها المغاربي خاصة، فهي في هذا السياق مثلا تتبنى بقوة قرار اخراج القوى الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، بل هي تقود اللجنة الأمنية المكلفة بمرافقة تنزيل هذا القرار ضمن منظومة دول الجوار الافريقي، وهو قرار يتضارب مع المصالح التركية في شطريه، اذ أن للأتراك قوات نظامية وعتاد ومستشارين، ولكنهم قاموا كذلك، بتجنيد مرتزقة تحت غطاء شركة أمنية خاصة على غرار شركة فاغنر وفيغاس الروسيتين أو بلاك ووتر الأمريكية وغيرها الخ....
وقد عبرت الدولة التركية في أكثر من مرة، عن رفضها لمجرد الخوض في نقاشات خروج قواتها قبل اتمام مهمتهم باستتباب الاستقرار في ليبيا او بطلب من سلطة طرابلس الغرب، وهذا توجه مفهوم بعد كل ما ضخت تركيا من استثمارات متعددة الأبعاد في ليبيا، وخاصة مشروعها الخاص بتحويل ليبيا للمركز اللوجستي الرئيسي للأتراك في افريقيا. وهذا ما يفتح على فهم تضارب أكبر بين استراتيجيات البلدين حيال افريقيا، اذ ان فهمي لمشروع "الجزائر الجديدة" "صانعة الاستقرار" في الاقليمين، او القوة "الاقليمية الضاربة" كما سمتها مجلة الجيش في احدى أعدادها الأخيرة، لا ترى نفسها في علاقة بالمتوافدين نحو القارة ونحو الساحل والغرب الافريقي بالخصوص، الا كالدولة المفتاحية الأولى لدخول القارة والمعبر الرئيسي لدخول افريقيا. بكل اختصار فان الجزائر تطمح أن تكون البوابة الشمالية الرئيسية للقارة وميناء الصحراء الأول. والجزائر في الحقيقة تملك كل المقومات الصلبة بل والبنى التحتية الجاهزة وأدوات التأثير النافذة، والخطط الموضوعة، دون الحديث عن الكوامن المعطلة لقوة ناعمة ضاربة: فهي تملك شبكات الزويا للحركات الصوفية وعلى رأسها الجركة الجيلانية ذات الامتداد الواسع في الصحراء والساحل وحتى غرب افريقيا، وعلى نحو شبيه تنتشر قبائل الأمازيغ والطوارق ذات البنى العشائرية المتوزعة على مساحة الصحراء، والصحراء كالبحر كما يقول ابن خلدون، اذ انها بغياب التضاريس الطوبوغرافية فيها تشابه مع البحر، فكلاهما يسهل انسياب المجموعات البشرية واندفاعها، وبذلك فان الصحراء كلمة مفتاحية لمساحة جغرافية تمتد من القرن الى الساحل ومن ثمة الغرب الافريقي على أقل تقدير، حيث يوجد كتل ديموغرافية استهلاكية حبيسة عن البحر وثروات باطنية كثيرة تبحث عن مسالك التوزيع. الجزائر تملك كذلك أجهزة سيادية فاعلة في المنظومة الأمنية في افريقيا عموما وذات تأثير فاعل في فضائها الجيوسياسي الحيوي بأقدار مختلفة، حتى أن عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة بالجزائر، أ.د.قوي بوحينة، قد وصف الجزائر في احدى الورقات البحثية ب "محج سياسي وأمني دولي ومتعدد الأطراف"، من جهة أخرى فان للجزائر مشروع الطريق السيارة العملاقة والذي من المفترض ان يشق افريقيا وصولا الى العاصمة النيجيرية كما انه يربطها في احد تفرعاته بتونس، وهي في نفس المنطقة تنافس المملكة المغربية على استجلاب أنبوب الغاز النيجيري للعبور من أراضيها...
أما في الجانب التركي، فقد نجحت تركيا في تحصيل بعض نقاط الارتكاز في افريقيا عبر التواجد الاقتصادي والخيري والثقافي وديبلوماسية المساجد وأدوات ناعمة أخرى كثيرة، وحتى بعض المرتكزات الصلبة مثل التواجد العسكري والأمني في ليبيا او في الصومال، ولكنها ورغم كل جهودها المبدعة في افريقيا، فان العقل الاستراتيجي التركي يعي جيدا أن توغله الحقيقي في افريقيا، يمر عبر فتح جسر على الأقل من ضفة المتوسط الجنوبية أو البحر الأحمر وبدرجة أقل في غرب افريقيا. ولكن تركيا وبعد كل جهودها التي تعثرت في اتجاه تونس ومازالت دون مستوى المأمول مع مصر، وذات آفاق محدودة مع المغرب، وصاحبة مرتكزات هشة في ليبيا، لا تجد أمامها أفضل من الجزائر كشريك استراتيجي موثوق نحو افريقيا.
الفضاء العربي
منذ صعوده لسدة الحكم في 2002، اتسمت سياسات العدالة والتنمية اتجاه المنطقة العربية بسياسة "الصفر مشاكل" لصاحبها داوود أوغلو الى حدود اندلاع الربيع العربي، الذي قذف بتركيا الى أمواج صراعه. وبعد ان استقال كيسنجر تركيا اعتراضا على ما اعتبره ارباكا استراتيجيا في مخططات تركيا، فقد بدأت القيادة السياسية التركية منذ 2016 بالاقتناع علنا على الأقل، بضرورة السعي لتخفيض العدوات وتقليل عدد الأعداء من ناحية، والإكثار في منسوب الصداقات وعددها من ناحية أخرى. وتلك هي الجهود التي انطلقت حينها لتتهيأ لها الظروف بعدها، حتى تؤتي أكلها بداية من قمة العلا في مفتتح السنة الفارطة. لقد أدركت تركيا جيدا خلال السنوات الأخيرة التكلفة ومخاطر ان تكون معزولة في محيطها، خاصة في تجربة شرق المتوسط. كما أن عوامل أخرى كثيرة قد تظافرت مثل:
· التضخم المالي والانكماش الاقتصادي، زاد دوافع التطلع نحو كل افق لفرص اقتصادية ممكنة، فقد أصبح الاقتصاد أهم مفاتيح التعاون بين دول، والتي لا تغلق حتى بانسداد العلاقات السياسية والديبلوماسية او حتى انقطاعها.
· حالة "توازن الضعف" التي وصلت لها المحاور الثلاث المتصارعة في المنطقة، فكل منها قد استيقن بعد عشر سنوات من أنه أضعف من أن يزيح الآخرين، وأقوى من ان يزاح عن الوجود.
· حالة "عدم اليقين" المتفشية في النظام الدولي، والمقترنة بتحولات أخيرة هزت منسوب ثقة حلفاء واشنطن فيها تبعا للخروج المخزي من أفغانستان، والمرتبطة كذلك بانسحاب أمريكا من المنطقة عموما، بما أخذ بدفع مراكز القوى الإقليمية، نحو محاولة فتح قنوات التواصل والعلاقات في كل اتجاهات بيئتها الإقليمية، حتى تملك حدا أدنى من طمأنينة الأمن الوجودي.
· وصول معادلات الصراع في المنصات الجغرافية المختلفة للربيع العربي، الى خطوط عامة من التوازن ولو الهش في بعض الأحيان، مع الانهاك الذي أصاب كل الأطراف المتصارعة، قد عجلا في طي صفحة الصراع الرئيسي القائم منذ عشر سنوات، حول الموجتين الأولى الثانية للثورات الديموقراطية للشعوب العربية.
· قناعة تركيا بأن النجاح في إرساء منظومة إقليمية مستقرة تحت اجماع توافقي على ضرورة أن يحل الإقليم مشاكله بنفسه، سيكون على المدى المتوسط والبعيد ذو مردودية عالية على تركيا، رغم ما قد يبدو باهظا في تكلفته المباشرة، اذ أن تركيا من خلال عناصر القوى المتراكمة اقتصاديا وعسكريا متقدمة على جميع جيرانها تقريبا، وذلك ما سيفرض نفسه واقعا مع الوقت في المستقبل.
لقد تقاطعت إذا كل العوامل المذكورة، لتذهب تركيا في اتجاه إعادة ترتيب علاقاتها العربية، ورغم ما يبدو أنها قد حققته من نجاحات اتجاه الامارات أولا ومن ثمة السعودية، فان تذويب الجليد مع القاهرة قد ظل بطيئا ومتعثرا، وإعادة ترتيب العلاقات مع نظام الأسد في سوريا مازال متأخرا، رغم أنه من زاوية الملفات الضاغطة والمرتبطة به مثل ملف اللاجئين والمنطقة الآمنة، يكتسي أولوية خاصة.
ومن هنا فانه وباعتبار ما سبق وأن ذكرناه حول سياسة الجزائر اتجاه الفضاء العربي، ووضعها لأهم رهاناتها على احتضان وانجاح المصالحة الكبرى للعرب، فان التوجهات الاستراتيجية لكلا البلدين تكاد تكون متطابقة، وهي تفتح على إمكانيات تعاون قد تظهر ثمارها خلال الأشهر القادمة، في اتجاه النظام السوري، او بالتنسيق في الملف الليبي، والتعاون في مرافقة المأزق التونسي بشكل او بآخر، الذي قد يترتب عنهما ارسال رسائل مشتركة نحو القاهرة بتعبيرة ما، للمساعدة في الوصول لمساحات اتفاق معها.
إذا لم يبق لنا الا ان نتساءل حول التصورات المشتركة التي تتبناها كل من تركيا والجزائر حيال ما يمكن تسميته بصفقة الاستقرار المنشود في المنطقة. أو فلنطرح السؤال بشكل أدق حتى نختصر المسافات؛ أين تقع الديموقراطية بدرجة أولى من هاته التصورات؟ وأين تقع الحركات الاسلامية منها؟
· بداية يجب أن نذكر أن كلا الدولتين كبقية دول العالم في حقيقة الأمر، لم يستخدم في شخص رئيسه توصيف الانقلاب، في تعامله مع ما حدث في 25 جويلية الفارط في تونس أبدا. وكل منهما يدير في بلده نظاما سلطويا بأقدار، يحتوي تعددية حزبية وتمثيليات برلمانية وحريات رأي وصحافة متفاوتة في حدودها بين البلدين، الا ان كلاهما يتميز بمركزة مفرطة للسلطة في رئاسة الجمهورية. وبذلك فان سقف ما يجب ان يكون مقبولا في الحد الأدنى، مما قد يطرأ من متغيرات على المنظومة السياسية في تونس يبدو واضحا، بل ومتقاطعا بأقدار ما مع ما يسعى رئيس السلطة القائمة في تونس اتجاه تحقيقه كنتيجة.
· ان لكلا البلدين تشابه مع الآخر في طبيعة العلاقات العسكرية المدنية المؤسسة لدولة الاستقلال، وحتى في منحى التطور الذي عرفته تلك العلاقات منذ ذلك الحين وان كانت تركيا متقدمة بأشواط في هذا المضمار، لكن رغم أن الجيش التركي أكثر ابتعادا عن السياسة بمعناها المباشر، الا ان القوات المسلحة التركية تلعب الى الآن أدوارا رئيسية في تصميم السياسات الخارجية الكبرى، وآخرها سياسة "الوطن الأزرق" التي انتجها الأدميرال "جيم غوردينيز" من البحرية التركية. وأما في الجزائر فموقع الجيش من السلطة معلوم. إذا فان كلا الدولتين يشتركان في منطلق الولادة: جيش له دولة لا دولة لها جيش مثل السياق الذي عاشته تونس. وبذلك يمكن توقع تصورات البلدين حيال سؤال الجيش والسياسة عموما والتي قد لا تطابق مع الهواجس المتذبذبة والمبالغ فيها أحيانا كثيرة لبعض النخب التونسية جول مقولات عسكرة الحياة السياسية.
علما وأن العلاقات التاريخية الوثيقة بين المؤسستين العسكريتين في تونس والجزائر، قد تبلغ في تشابكها المؤسساتي مستوى الهياكل الوسطى او حتى الدنيا، اذ أن البلدين يديران على امتداد الحدود بينهما ثلاث منظومات أمنية مشتركة بخلاف ما يجمعهما من تواجد مشترك في جملة من الهياكل والمنظمات الإقليمية، على غرار جهاز "الأفريبول" ومجلس وزراء الداخلية العرب...
وهو ما يجعل الترحاب الجزائري بإمكانية لعب المؤسسة العسكرية التونسية لأدوار أوسع في تدعيم استقرار البلاد وسيرورة عمليتها السياسية جد وارد، وذاك ما قد يمثل احد ابعاد الحل للمأزق التاريخي الذي تعايشه تونس فعلا، ويستدعي من النخب تناوله دون حساسيات العالم الثالث، بل بالنظر اليه بهدوء بعدسات التجارب الغربية المقارنة، وفهم طبيعة ما يحدث في الديموقراطيات العريقة، من أجل اعادت استثمار الطاقات البشرية عالية التأهيل لكوادر الجيش ومتقاعديه، بإدماجهم في الدورة الإنتاجية عبر ترأس الشركات الخاصة او بالعمل ضمن البيروقراطية المدنية للدولة والإدارات السياسية على رأسها. كما ان الجيوش تلعب أدوارا متقدمة في مجالات البحث العلمي والصناعات والتخطيط الاستراتيجي والتنمية وادوار أخرى عديدة رأينا بعضها في بدايات الكورونا.
· اما في خصوص مقاربة كلا البلدين لأدوار الحركات الإسلامية في فضائهما العام، فان هناك مساحات تقاطع محترمة بين البلدين، رغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من اختلاف بينهما، اذ أن كلا النظامين العلمانيين يدمج من موقع أو من آخر مكونات وأحزاب سياسية ذات خلفية إسلامية. كما ان كلا المقاربتين في الادماج متشابهتان، فأحدهما يجعل فرعا من حركة إسلامية ينفتح على خط قومي وآخر ليبرالي ليأسس معهم رافعة سياسية مشتركة توصلهم للحكم ويكون هو على رأسها في الفترة الأولى على الأقل كما يحدث في تركيا. واما الجزائر فيمكن اعتبار انفتاحها على الحركة الإسلامية تاريخيا قد مر من محطتين رئيسيتين، اولاهما مع مخاض تأسيس دولة الاستقلال والتي أدمجت شقا من جمعية العلماء المسلمين التي أسسها المرحوم بن باديس، ومن ثمة من خلال القرار الاستراتيجي للمغفور له الشيخ محفوظ النحناح في مقتبل العشرية السوداء والذي افضى مع جهود الشيخ بن جاب الله الى ادماج كلا الحركتين الإسلاميتين في المنظومة السياسية، من خلال تواجدهما في الانتخابات المحلية والجهوية والبرلمانية والمجتمع المدني، وقد أفضت عملية الادماج الى تفرع اكثر من مكون من الحركتين الأصليتين ليناهز عددها اليوم ال 5 أحزاب، وأكبرها حركة حمس التي طالما مثلت كتلة برلمانية وازنة من موقعي الحكم والمعارضة. إذا فان كلا النظامين لا يرى بسيناريوهات الاستئصال، بل يتبنى مقاربات اندماجية. ولكنهما يطلالبان من خلال مسارات الادماج بانفتاح الحركات الإسلامية بشكل او بآخر على قوى المجتمع وبيروقراطية الدولة، لتكون معهم جزء من كل، سواء كان ذلك في مركز الكل وعلى رأسهم في الحالة التركية، او في أطراف الكل وعلى هوامشهم في النموذج المعاكس في الجزائر. اذ أن حزب العدالة والتنمية التركي على غير ما يفهمه أغلب الإسلاميين والعلمانيين في تونس على حد سواء، ليس حزبا اخوانيا في شيء، بل ان خلطة "العثمانيين الجدد" قد تأسست على أربع ركائز او تيارات رئيسية: الإسلاميون، الليبراليون، القوميون، أكاديميون من أصحاب الأهواء المحافظة. وصحيح أن الخط الإسلامي قد حافظ طيلة العقدين الفارطين على رئاسة الحزب بقيادة أردوغان، الا أن هذه التوازنات قد لا تتواصل طويلا في المستقبل، اذ أن الأسماء الثلاثة المتداولة لمن يمكن اعتبارهم رجال أقوياء مؤهلين لخلافة أردوغان، يعتبرون من خارج التيار الإسلامي، وهم على التوالي: وزير الداخلية سليمان صويلو، وزير الدفاع خلوصي آكار، ورئيس المخابرات هاكان فيدان.
أضف الى ذلك أن قناعة مشتركة، قد بدأت بعد انقضاء عشرية على الربيع العربي، بالانتشار بين أنظمة المنطقة الداعمة او القابلة في حد أدنى بتواجد الحركات الإسلامية، في أن الإسلاميين غير مؤهلين او قادرين على إدارة العملية السياسية من مركزها، مثلما عبّر عن ذلك صراحة رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم مؤخرا، ونفس المعنى متداول كذلك بكثافة وبنبرات وأنساق مختلفة في الحقل الأكاديمي في المنطقة منذ مدة.
ان كل هاته السياقات تجعلنا نتوقع، أنه وفي سبيل الوصول بالمنطقة نحو تحقيق المصالحة الكبرى الذي يتخذ طابع الهدف الاستراتيجي لدى تركيا والجزائر، فانهما سيرحبان بدفع الأدوار السياسية للحركات الإسلامية كقربان للتسوية نحو التحجيم او التراجع وفقا لمقاربة الادماج التي ستنتج لهم، أو أن تسبق الحركة الإسلامية بإعادة التشكل الذاتي، وفق ما قد يكون مقبولا من كل من النخب وبيروقراطية الدولة والرأي العام، وبالدرجة اللازمة التي تجعلها حاملة لمقومات نجاح الحزب السياسي الشعبي في صناعة الوثبة التنموية في البلاد. إذا فالحركة الإسلامية في تونس مازالت مخيرة، بين أن تقدم تصورها الخاص لأنجع مقاربات الاندماج كعرض سياسي، أو أن تنتظر مقاربة الاندماج القسري التي ستفرض عليها.
* كاتب وناشط سياسي تونسي
Comments
4 de 4 commentaires pour l'article 246779