النقابات... بين قطع الطرق و أساليب العصابات
و اكتشف التونسيون في سنة 2011 العجيبة هذه -من جملة ما اكتشفوا- كيف يكون الحراك الاجتماعي و معنى الإضرابات... حتى بلغت منهم حد الثمالة (على الأقل أولئك من جيلي ممن لم يعاصر أحداث 1978 و 1984).
كم كان هادئا عهد المخلوع و كم كان فطاحل الحركة النقابية التونسية بعيدين عن الأضواء و عن أعمدة الصحف... إلا ما تقرر التشهير به من فضائح لفساد قياداتهم، أو ما تقرر السماح به من مسيرات التأييد أو التنديد لصالح فلسطين أو العراق ضد ما يتعرضون له من عدوان.
لا ينكر أحد أن الحركة النقابية و هياكلها لطالما كانوا في طليعة المقاومين و المنددين بالظلم الاجتماعي الذي تفاقم في العقود الأخيرة، لا ينكر أحد أنهم ساهموا بدرجة كبيرة في احتضان ثم تأطير ثم دعم الاحتجاجات الشعبية التي انتهت بسقوط النظام البائد، لا ينكر أحد قيمة الاتحاد العام التونسي للشغل كمنظمة عريقة و جامعة ولكن... ما هذا الذي يفعله الاتحاد منذ 14 جانفي 2011؟
كم كان هادئا عهد المخلوع و كم كان فطاحل الحركة النقابية التونسية بعيدين عن الأضواء و عن أعمدة الصحف... إلا ما تقرر التشهير به من فضائح لفساد قياداتهم، أو ما تقرر السماح به من مسيرات التأييد أو التنديد لصالح فلسطين أو العراق ضد ما يتعرضون له من عدوان.
لا ينكر أحد أن الحركة النقابية و هياكلها لطالما كانوا في طليعة المقاومين و المنددين بالظلم الاجتماعي الذي تفاقم في العقود الأخيرة، لا ينكر أحد أنهم ساهموا بدرجة كبيرة في احتضان ثم تأطير ثم دعم الاحتجاجات الشعبية التي انتهت بسقوط النظام البائد، لا ينكر أحد قيمة الاتحاد العام التونسي للشغل كمنظمة عريقة و جامعة ولكن... ما هذا الذي يفعله الاتحاد منذ 14 جانفي 2011؟
لطالما اعتقدت –ولا أزال- أنه بقدر ما كان دور الإتحاد مصيريا في إنجاح الثورة و إيقاد الزخم الشعبي في كل ربوع البلاد، كان دوره مصيريا أيضا في ضرب نفس هذه الثورة و كل المعاني الجميلة التي حملتها في مقتل، محولة إياها إلى ثورة جياع و ثورة مطلبيات تراوحت أساليب المناداة بها بين "الشحاذة" و "البلطجة".
لنتذكر جميعا ليلتي 14 و 15 جانفي، كيف قضاهما التونسي بين الخوف و الأمل... يوم الأحد 16 جانفي استجمع التونسيون شجاعتهم و قواهم و خرجوا يعيشون حياتهم رغم التهديدات. "لن نرضخ لإرهاب العصابات، لن يفلح بعض المئات ولو الآلاف من الكلاب المسعورة في وأد الحلم... سنخدم تونس و سنبني ما تهدم و سنصلح ما أحرق" قال لي أحد شبان حي الملاسين آنذاك. كان منظره مريبا و لا يوحي إلا بالإجرام و لكنه أعطاني يومها درسا لم أجده عند أصحاب ربطات العنق و الياقات الطويلة. أتذكر أن مساء الأحد 16 جانفي كانت الرسائل القصيرة تتواتر بين الناس، يتواعدون على الذهاب إلى العمل صبيحة غد حتى "لا تخسر تونس أي ساعة عمل"... فشدتني عبارات من نوع "لنبني تونس" و "لنصنع المستقبل". كم كان راقيا شعبنا و هو يفتح الإدارات و البنوك صباح الاثنين و هو يسترق النظر إلى الأسطح مخافة أن يطل عليه قناص متخف. كم كان رائعا شعبنا لما عاد الازدحام إلى طرقاتنا صبيحة الثلاثاء و رجعت وسائل النقل تترنح من ثقل الركاب، كل يقصد عمله، يحمل في قلبه شيئا من الخوف ولكن الكثير من التحدي. مساء ذاك اليوم و بعد أقل من مئة ساعة من خروج المخلوع، بدأت المهزلة: الحافلات و عربات المترو التي حملت المواطنين إلى أعمالهم رفضت العودة بهم إلى منازلهم... قيل يومها أنه إضراب عمال نقل تونس مطالبين التحسين في أوضاعهم المهنية. و لما كان المواطنون لا يزالون يقطعون الكيلومترات، سيرا على الأقدام، بين الأوحال و تحت المطر، كانت قناتنا الوطنية تحاور النقابيين و هم يحدثونها عن الشهرية، و عن كراسي السواق المتهرئة أو الترقيات الظالمة.
أتذكر ليلتها أن غالبية الشعب التونسي –باستثناء المضربين أنفسهم طبعا- كان انطلق بوابل من السب و الشتائم لهؤلاء الذين لم يراعوا إخوانهم المواطنين، تاركين إياهم مقطوعي السبل و تحت الأمطار، قصد استغلالهم كوسيلة ضغط لتحقيق مآربهم. استنكر التونسي يومها كيف يطالب أحدهم بتحسين وضعيته بينما يقبع الكثيرون في فقر مدقع و في الوقت الذي كان فيه الجميع يتحدثون عن التبرع للشهداء، و للمناطق المحرومة و للجيش و للمعطلين... تخصيص يوم عمل شهريا، بل يومين، و لم لا ثلاثة... كل تلك الوعود و النوايا الحسنة ذهبت سريعا، و نسيها –أو تناساها- الكثيرون.
بعد أقل يومين، و تحديدا صبيحة الخميس 20 جانفي، شلت البلاد من جديد: إضراب المعلمين! ثم انفتح الباب على مصراعيه: اتصالات تونس، الخطوط الجوية التونسية، عمال الموانئ و المطارات... بل و حتى أعوان الأمن و الديوانة انخرطوا في الحفلة. و صار "زعماء" الاتحاد العام التونسي للشغل طرفا قارا في الحوارات التلفزية، ينظرون حول اطروحاتهم في كيفية "إصلاح" المنظومتين الاقتصادية و الاجتماعية في تونس، يحدثون عن "الحق المقدس" في الإضراب و عن الدور التاريخي الذي لعبه الاتحاد في الثورة المباركة و أحقيته بالتالي في فرض رؤاه...
و مذاك التاريخ، تحولت ثورة الكرامة إلى حالة من الفوضى الاجتماعية و الشلل الاقتصادي الذي خلف من ورائه مزيدا من المعطلين و مزيدا من الفقر. و تراوحت التحركات من الوقفات الاحتجاجية إلى الإضرابات إلى الاعتصامات إلى قطع الطرق و المواصلات إلى العنف و التهديد و التخريب. صار لي الذراع هو السبيل الأوحد و لا صوت يعلو فوق صوت التصعيد و "الإضراب العام و المفتوح حتى تحقيق كافة مطالبنا المشروعة" و "حماة الحمى يا حماة الحمى"... أراهن على أن أغلبهم لم يغنوها منذ تحية العلم أمام قسم السنة السادسة ابتدائي.
و ما زاد في سخافة المشهد أن الجميع يستنكر إضرابات الآخرين و هو مدرك ما تفعله هذه المواقف الرعناء في اقتصاد البلاد، و لكنهم بذاتهم ينخرطون في إضرابات تخصهم زاعمين أن "وضعيتهم مختلفة". و انخرط في المد المعطلون و العاطلون، من أصحاب المستويات أو من عديميها، مطالبين بدورهم في العمل بالمؤسسات تحت أحقية السكن بالجهة! و بدأنا نسمع أرقاما غريبة: شركة فسفاط قفصة ستشغل 9000 عامل إضافي! المركب الكيميائي بقابس سيشغل 5000 عامل إضافي!!! و لكن هل هذا "تشغيل" أم ركوب على المؤسسات الوطنية و تحويل لها إلى "تكية" تعول الجميع؟ أولم نتحرر من منطق التواكل و الاعتقاد بان من حق الجميع العيش عالة على الدولة؟
ثم و في مد "بروليتاري" مريب، "قرر" الاتحاد القضاء على المناولة... صحيح أن أغلب عقود المناولة هي مجحفة في حق العمال يتمعش من خلالها أحد المتنفذين من أصحاب العلاقات و يمتص من خلالها عرق العمال و آمالهم، و لكن المناولة ليست من اختراعات المخلوع بل هي سياسة معمول بها في كل اقتصادات العالم الحرة حيث يفضل الكثيرين العمل عبر شركات توظيف تفتح لهم الآفاق و تسمح لهم بتنمية قدراتهم عبر تسهيل تنقلهم من شغل إلى آخر على أن يرتبط بعقد "مسمار في حيط" من تلك العقود التي يعشقها الكثير من التونسيين.
نوابغ الاقتصاد من وجوه المكتب التنفيذي للاتحاد –ولي أن أسأل عن مستوياتهم التعليمية لأن خطابهم لطالما افتقد إلى الدقة مقابل الطرح الشعبوي و الشعارات الصدئة- لم يطلبوا إعادة تأهيل القطاع أو إعداد كراس شروط يضبط المعاملات و يضمن حق العمال, لم يطلبوا إقرار المساواة في الأجر حسب القطاعات... طلبوا و بكل بساطة القضاء على المناولة بإدماج جميع المتعاقدين في الشركات التي يعملون بها! وهكذا يصبح أكثر من نصف موظفي شركات النفط هم من الحراس و السواق و عمال التنظيف (مع احترامي الكامل لأصحاب هاته المهن) و كذلك الحال في شركات الاتصال أو الطيران أو الإعلامية... ثم و بعد أن يتم استيعابهم من قبل الشركة يأخذ مسلسل الإضرابات الداخلية محل الاعتصامات الخارجية و تأتي المطالب الآنية بالترسيم ثم بالترفيع في الأجور ثم ما تجود به القريحة حتى بلغنا حد المطالبة بتغيير المسؤولين و فرض الهياكل الإدارية (المناصب و الأسماء) حسب ما يروق لجحافل الشعب المسلح ب"ديقاج" و زعمائهم من المناضلين النقابيين!
إذا كانت هناك كلمة تعبر بصدق عن هاته الفترة فستكون حتما الغوغاء. همجية و عنف و انحدار في مستوى الخطاب و الحوار و انعدام للمسؤولية إزاء المصلحة الوطنية أو حساسية الظرف أو عقلانية المطالب. لسان الحال يقول: أنا و بعدي الطوفان، و "اللي يقلي أنو باش نجيبلي دينار زايد، هو قائدي و هو ملهمي".
اليوم، و بعد أن هدأت كثير من العواصف و أغلق العديد من المشاريع و تأجل عدد آخر، لا نزال نسمع من حين لآخر بإضراب هنا أو إضراب هناك، أمور عشوائية ينطلق فيها القطار من تونس مثلا ليتوقف في النفيضة، وسط الحقول و السباخ ليعلن أنه دخل في إضراب!! ينزل السائق من عربته ليقول للركاب و بكل بساطة أن يتدبروا أمرهم و ليرمي باللائمة على مديريه الذين حرموه من ترقية أو من زيادة، يصر السائق على موقفه غير عابئ بمصالح الناس، شبابا و عجائز، رجالا و نساء، مرضى أو حوامل. ثم و ليضفي صبغة بطولية على موقفه، يتمدد على السكة مشددا على أن القطار لن يمر إلا على جثته!!
ثم يطل علينا أحد قادة الاتحاد مع أنباء الثامنة ليدافع عن هذه الإضرابات واصفا إياها بالمشروعة و "المعقولة"... أكيد أنه لو كانت زوجة الرفيق أو والدته إحدى ضحايا هذا التعسف لكان له موقف مختلف. أي تنظيم يسمح بمثل هذه الفوضى، وأي مجتمع يقبل بمثل هذا السيرك المفتوح؟
و تمتد المآسي مع إضراب قطاعات تزايد على بعضها في الحساسية (تجاه الوطن أو تجاه المواطن) من أطباء صندوق التضامن الاجتماعي (أطباء الفقراء) إلى شركات النقل البري، إلى السياحة (و كأن سياحتنا بحاجة إلى المزيد من المشاكل)، وصولا إلى حقول النفط بالجنوب و معمل التكرير "ستير". شبان من حي العمال بجرزونة يقطعون الطريق و يتسببون بتوقف المعمل و تعطيل تزويد البلاد بالمحروقات... و النقابة تساند مطالبهم بإدماجهم في الشركة... لا أدري حقا إن كان أحدهم مدركا لخطورة ما يحدث! و للجميع أن يتساءل، أين يذهب بنا هؤلاء؟
و مما يزيد الطين بلة كما يبدو إستفحال عقليّة "الكوربوراتيزم" أو التضامن الأعمى داخل الأسلاك المهنيّة (القاضي مع القاضي و الشرطي مع الشرطي و الزبال مع الزبال و البطال مع البطال) حتى لو كان ذلك على حساب أي عقل أو منطق أو حتى على حساب القانون، و هي ظواهر سلبيّة وتعبّر عن عقليّات متخلّفة لا تختلف كثيرا عن العقليّات العروشيّة أوالقبليّة.
لا أشك أن الإتحاد العام التونسي للشغل هو منظمة ذات تاريخ نضالي عريق، ولكن نتمنى أن يتذكر قادته أن حزب الدستور كان أيضا تنظيما مناضلا و عريقا حتى ركب عليه الوصوليون و المفسدون فأحالوه مسخا لا يمت بشيء للحزب الذي قاد البلاد إلى الاستقلال و ساهم بقسط كبير في بناء الدولة. حزب بورقيبة و محمود الماطري و الثعالبي و بن يوسف بعيد كل البعد عن تجمع بن ضياء و صخر الماطري و الغرياني و الآخرين... و حديثنا قياس.
يدور حديث من هنا و هناك عن إتاوات يدفعها الصناعيون إلى مسؤولين نقابيين قصد الحفاظ على حد أدنى من السلم الإجتماعي، و عن أبناء يدرسون بالخارج على نفقة الشركات و عن نفوذ و امتيازات يتمتع بها النقابيون لا تختلف كثيرا عن تلك التي كانت لأعضاء الشعب التجمعية. هل اسقط التونسيون ديكتاتورية التجمع ليرزحوا تحت ديكتاتورية النقابات؟
على كل، علمتنا الثورة أن التاريخ لا ينسى ولا يرحم... من يدعي الوطنية عليه أن يبدأ بنكران الذات و بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة و أن يساعد على تأطير الناس و توعيتهم لما فيه خير البلاد و العباد.
ثقافة البلطجة، قطع الطرق و لي الذراع قد نتفهمها –دون أن نعذرها- عندما يأتي بها عدد من الشباب الغاضبين أو قليلي التكوين، و لكنها لا تجد إلا الاستنكار لما تكون ممارسة من قبل منظمة لا تقبل أن يزايد عليها أحد في مواقفها الوطنية...
حامد الماطري
Comments
116 de 116 commentaires pour l'article 41047