من نسور قرطاج إلى مطار قرطاج: استحضار للتاريخ الغابر وإقصاء للتاريخ العربي الإسلامي...
كريم السليتي (*)
تقول الباحثة الاسبانية الأندلسية أديبة روميرو في أحد برامج البودكاست إن الجهات الرسمية في اسبانيا حاولت جاهدة إغفال الفترة الذهبية للحضارة الأندلسية من تاريخ اسبانيا، وتعمد في كل مناسبة إلى طمس تلك الحقبة ورموزها ومعالمها، وأن الباحثين الاسبان في المجال التاريخي والتراثي وقفوا ضد هذا التوجه الحكومي في تدليس التاريخ، خاصةً وأن السياحة في اسبانيا حصلت على سمعتها وشهرتها بفضل قصر الحمراء والآثار العربية الاسلامية الأندلسية في كامل ربوع اسبانيا .
تقول الباحثة الاسبانية الأندلسية أديبة روميرو في أحد برامج البودكاست إن الجهات الرسمية في اسبانيا حاولت جاهدة إغفال الفترة الذهبية للحضارة الأندلسية من تاريخ اسبانيا، وتعمد في كل مناسبة إلى طمس تلك الحقبة ورموزها ومعالمها، وأن الباحثين الاسبان في المجال التاريخي والتراثي وقفوا ضد هذا التوجه الحكومي في تدليس التاريخ، خاصةً وأن السياحة في اسبانيا حصلت على سمعتها وشهرتها بفضل قصر الحمراء والآثار العربية الاسلامية الأندلسية في كامل ربوع اسبانيا .
أن تقوم الحكومات الاسبانية بمثل هذه المساعي لوأد التاريخ الاسلامي على أرضها، فهذا الأمر ليس مستغربًا وقد يكون مفهومًا (دون أن يكون مُبَرَرًا) بحكم التوجه الأوروبي الغربي لاسبانيا، لكن أن نرى بعض هذه الظواهر في دول عربية ومنها تونس (مصر الفرعونية ، العراق البابلية، سوريا الآشورية، تونس القرطاجية…)، فهذا يعتبر جرمًا في حق تاريخنا وحضارتنا وفي حق الأمانة والنزاهة تجاه الأجيال القادمة.
تونس "الرسمية" إن صح التعبير اعتمدت منذ أكثر من نصف قرن عن قصد أو غير قصد توجهًا مشابهًا لاسبانيا حيث لا تخطئ عين المواطن التونسي ولا السائح الأجنبي ذلك الإغفال المتعمد لتاريخنا الاسلامي والعربي في التسميات والرموز على الأقل.
من نسور قرطاج عوضًا عن نسور القيروان أو نسور الزيتونة أو ببساطة نسور تونس، إلى درع حنبعل عوضًا عن درع عقبة بن نافع، مرورًا باختيار الرموز على الأوراق النقدية والطوابع البريدية وتسمية المهرجانات والمطارات والشوارع والأحياء .
لسنا ضد قرطاج ولا ضد حنبعل، لأن هذا جزء من تاريخنا الذي نعتز به، لكن ليس إلى درجة إقصاء باقي الحقب التاريخية وخاصة تلك المضيئة في تاريخنا بأسمائها وشخوصها وانجازاتها.
هناك غرفة ايديولوجية سوداء واحدة تدير هذا الموضوع بعناية منذ نصف قرن أو أكثر لإزاحة أي شيءٍ قد يحيلك إلى تاريخنا الإسلامي المشرف في تونس. والغريب أنه تتغير الحكومات ويتغير الرؤساء وتتغير الأجيال والأمر على حاله.
لاحظوا جيدًا كيف يحاولون التركيز دائمًا على التاريخ الفينيقي والروماني لتونس(حنبعل ، عليسة،تانيت،درع،قرطاج…) الذي يرجع لأكثر من ألفي سنة، ثم قفزة في تاريخ إلى الحقبة الاستعمارية (شارل ديقول وجون جوراس والان سفاري والبارون ديرلوجي…) مع اغفال تام للتاريخ الاسلامي المتواصل إلى اليوم.
لماذا لم يخطئوا مرة ويظهروا حسن نيتهم ويسموا شيئًا بإسم القيروان أو الزيتونة أو عقبة بن نافع أو أسد بن الفرات أو ابن منظور أو أبي زيد القيرواني أو محرز بن خلف أو بن عاشور أو أي رمز من رموز تونس بعد الفتح الاسلامي.
لقد وصل التطرف في اقصاء الشخصيات التاريخية الاسلامية التونسية إلى سحب الأوراق النقدية التي تحمل صور ابن رشيق والعلامة ابن خلدون، في حين تجد شوارع وأحياء في قلب العاصمة بأسماء شخصيات فرنسية بعضها أيديهم ملطخة بدماء التونسيين أمثال شارل دي ڤول. هل يعقل أن تسمي دول عربية أخرى مدارسها ومحطات المترو وأحياء سكنية بأسماء أسد بن الفرات وعقبة بن نافع ونحن نقصيهما (وغيرهم) من تسمياتنا.
يبدو أن الأمور مدروسة وليست اعتباطية والشعب الكريم وللأسف يكرر دون وعي والإعلام يروج دون تمحيص.
ذكر قرطاج مثلا وربط كل انتصار أو مشاركة رياضية أو ثقافية أو سياسية بقرطاج هو ربط لحاضر تونس بتاريخها ما قبل الإسلام…
على الرغم من أنه من الناحية التاريخية يُعتبر أوج تاريخ تونس في عصر الدولة الأغلبية فلماذا يستبعد التاريخ القريب نسبيًا ويستحضر فقط التاريخ الغابر الذي لا صلة له مع واقعنا اليوم لا لغويًا ولا دينيًا ولا اجتماعيًا ولا على مستوى العادات والتقاليد.
إنتبهوا فالصورة المراد تسويقها إلى الأشقاء العرب وإلى العالم وإلى أطفالنا أننا في تونس لا نفتخر بعروبتنا وتاريخنا الإسلامي تمامًا مثل اسبانيا ونقتصر فقط على اجتزاء جزء صغير جدا من تاريخنا القديم ومحاولة تسويقه.
هل قررت الدولة منذ فجر الاستقلال التبرأ من تاريخنا العربي الاسلامي ، ولفائدة من هذا التوجه؟
في الأخير قارنوا المقاربة التونسية (الفاشلة) مع ما قامت به قطرعلى سبيل المثال خلال كأس العالم وقوة الرسالة الحضارية التي قدمتها المبنية على هوية واحدة راسخة ثابتة وهي الهوية العربية الاسلامية والتي جعلت العالم كله يحترمها بل ويرتدون اللباس التقليدي للمواطنين القطريين ، وهذا إثبات عملي لنجاح التأثير الثقافي والحضاري الذي قامت به. وكذلك الشأن بالنسبة لتركيز المغرب الأقصى الشقيق على الترويج للطابع العربي لمراكش حتى أصبحت أيقونة عالمية ووجهة سياحية أصيلة يجذب السياح من كل انحاء العالم.
لقد حان الوقت لإجراء مصالحة بين الدولة وتاريخنا العربي الاسلامي المتواصل منذ 14 عشر قرنًا. اصلاح هذا الإخلال التاريخي والتراثي الخطير حيث ينبغي التوقف فورًا عن تنفيذ الأجندات الايديولوجية والاستعمارية التي تحاول اجتثاث تراثنا العربي الاسلامي الغني من وجداننا ومن معالمنا وعمراننا وتظاهراتنا وفعالياتنا.
لقد حان الوقت لتعتز الدولة ومؤسساتها الرسمية بتاريخنا وحضارتنا العربية الاسلامية وتفرض ذلك الاعتزاز على العالم ليحترمها.
لقد حان الوقت لتنقل الدولة الاعتزاز بتاريخنا وحاضرنا وهويتنا إلى الأجيال القادمة عبر تفعيل الأدوات والآليات اللازمة لذلك ومنها الاعتدال في إختيار التسميات وعدم إقصاء الحقبة العربية الاسلامية المتواصلة. بل والترويج لها عالميًا وداخليًا لتثبت ثراء تاريخنا وتراثنا وأصالة هويتنا.
* كريم السليتي
كاتب وباحث في الاصلاح الاداري
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 280547