مذكرات مريض ليبي في تونس
حين ترى مجموعة من الرجال، منهم من يزف على برويطة، ومنهم من يزحف على يديه، ومنهم من يمشي على رجل واحدة، ومنهم من أغلق عينيه، وحين ترى مجموعة من عجائز هلكى، منهن من تجر بين ولدين، ومنهن من تزحف على عكازين، ومنهن من تعصب الرأس أو اليدين، وحين ترى فتيات مؤدبات، محجبات خاشعات، مريضات أو مرافقات، وحين ترى شباباً حائرين، أذلاء خاشعين، مرضى في أنفسهم أو مرافقين لآباء وأمهات، فاعلم أنك في تونس، وأن هؤلاء هم نماذج من شعبك الليبي، اضطرهم المرض إلى الرحيل وراء العافية. فيا للعار، ويا للشنار، إن شعبنا حقا حياته عادية،ولكنه في مأساة صحيٌة، ومن لم يصدق تلك المأساة، فليرحل إلى تونس ليراها بأم عينيه. فما الذي دهى هذا الشعب وقهر عزته وحطم نفسيته؟ وهو الذي (يملك سلطته) بين يديه، ويصرف أمور يومه وغده؟ وما الذي جنوا وأي لعنة من لعنات السماء استحقوا، حتى يكتب عليهم القدر كل هذا التشرد والضياع، والتمزق النفسي المهين، راحوا (هتايا) يلتمسون العافية في الغربة، فذاقوا مرارة الفقد مرتين، وأي إحساس كطعم العلقم يعيش فيه المريض، ويتجرع مرارته المرافق؟ وكيف يكون شعور المريض حين تتدهور صحته فيخاف دنو أجله، ويفكر في حجم المتاعب التي سيسببها لمرافقه في حالة وفاته، لقد خشيت أن تدركني الموت هناك، فرحت هكذا أقيم الموقف : أما الليبيون المرضى فكل منه يلهث وراء عافيته، فلا طمع لي في عون أحدهم، وأما سفارتي وهي التي في الخارج تتولى رعايتي، فمن المستحيل أن تتأثر لخبر وفاتي، فترسل مندوباً يتسلم رفاتي، ذلك أمر ميئوس منه، فلها مخطط آخر تراقبه وتسير فيه، وأما التوانسة فكل منهم مشغول بنفسه، ويسعى على عيشته، فليس يتوقع منهم أن يلتفتوا إلى جثة ليبي ميت مرمي، وأما الأطباء فيجمعون حظهم من الغنيمة التي ساقتها الأقدار لهم، ووضعتها بين أيديهم. وعلى ذلك فلم يبق غير الكناسين، وهواة المحافظة على سلامة البيئة هناك، فربما يتقدم واحد منهم، فيجرني برجلي إلى أقرب برميل للقمامة فيرميني فيه، ليسدل الستار على حياتي، وينهي بذلك قصتي. أما ميزة التوانسة التي نقر لهم بالعبقرية فيها، ونحسدهم عليها، فهي أنهم انفتحوا على الغرب طيلة العقود الماضية، واستطاعوا أن يستفيدوا من علمه ويشاركوه في تقدمه، دون أن يخسروا شيئاً، بل بمجرد التودد إليه، في حين أعلنا نحن العداوة له والحرب عليه، فمحونا لغاته، وأغلقنا منافذ الاتصال بيننا وبينه، فخسرنا كل شيء، من حيث لم تؤثر فيه مقاطعتنا له، فلما اضطررنا لإعادة الانفتاح عليه، وجدنا البون شاسعاً بيننا وبينه، فقد خطا إلى الأمام مراحل تخلٌفنا نحن عنها، وها نحن اليوم نتحسر على تلك الخسارة، ونتجرع مرارتها، ونقرع سن الندم عليها. إن الطب في ليبيا - بحسابات العالم اليوم - متخلف إلى حد بعيد، ولا تظهر في الأفق أية بادرة لإصلاحه، فلماذا ينفق على قطاع الصحة عندنا الآلاف دون جدوى، أليس من الأجدر أن تغلق هذه الخيالات، التي تدعى عندكم مستشفيات، وتعود إلى أهلهن الممرضات المتغطرسات القاسيات، ويسرح الموظفون وهم بالآلاف يعدون، وتقوض الإدارة المشلولة العاجزة، وتقتصد النفقات التي تصرف عليها، وتحول إلى قطاع آخر يستفيد منها؟ أما المريض فلا تحملوا همه، إذ سوف يسارع - بعد غلق قطاع الصحة أمامه- ليعالج على حساب نفسه، بصفة تلقائية في الدول المجاورة، ثم يتعود على ذلك ويمضي عليه، كما تعودنا على شوال السكر وصندوق الزيت وعلبة الحليب. لا شك أن إخواننا التوانسة استفادوا من الغرب، فخطوا خطوات واسعة وخاصة في ميدان الطب، ولا حقوا كل جديد فيه، واستوردوا الأجهزة الحديثة، ونجحوا في تشخيص المرض، وأهم من ذلك كله أنهم تعلموا كيف ينبغي أن تكون العلاقة بين الطبيب والمريض، ولقنوا ذلك للطاقم المساعد، من ممرضات وعمال وموظفين، حتى غدا المريض الليبي يحس بدبيب الأمل، وتسري في بدنه العافية، بمجرد أن يرى ابتسامة الطبيب التي يراها لأول مرة، ويسمع منه حديثه اللين الرقيق، الذي ما حلم به في حياته مرة. لكن المؤلم حقاً أن إخواننا في تونس، لا يعلمون أن فقراءنا أضعاف فقرائهم، وأن مرتباتنا أحط بكثير من مرتبات العمال عندهم، هم لا يعلمون أن مرتب الممرضة عندهم، خير من مرتب الطبيب الرسمي الخريج عندنا. إن جهلهم بحالنا هنا، أعقب مردوداً سيٌئاً على المرضى التعساء الذين يتعالجون عندهم، فهم يظنون أننا كلنا أغنياء نملك مال الدنيا، لأنهم يسمعون بغلاء البترول، ويسمعون ببلادنا فوق بحيرة، ويعلمون أننا نسوٌق منه كل يوم بالملايين، فما عليهم إلا أن يضغطوا على بطن المريض الذي بين أيديهم، ( ليقذف ) لهم العملات الصعبة من الدولار الأخضر، واليورو الأصفر. ومن هنا نخشى أن يتحول الطب عندهم من مهنة إنسانية رحيمة، إلى ابتزاز واستلاب، كشأنه في بعض المصحات ( الشاطرة )عندنا، وفي دولة أخرى قريبة منا. ولسنا نرغب أن نظلم القوم، فربما يكون لمشاعرهم هذه ما يبررها، فهي مشاعر ناجمة عن مشاهدتهم لجماعات من إقليم طرابلس، ممن امتن الله عليهم بالمال والسلطان، يهبطون بلادهم للمتعة والراحة، وماذا يضير أصحاب الملايين،أن يمضوا في تونس إجازة نقاهة، يطرحون فيها الحشمة، ويصيبون شيئاً من ألوان اللذة، ويتخففون من جفاف الحياة في الجماهيرية، ويستعرضون في شوارعها الفسيحة سياراتهم الفخمة، تزغلل لها العيون، ويسيل لرؤيتها اللعاب؟. ولا شك أن ما يرونه كل يوم من تلك الجماعات، خلق عندهم الانطباع الخاطئ، بغنى الليبيين وتخمتهم من المال، وبذلك خفيت عليهم حقيقة الحال. ومما يضاعف أيضاً من متاعبنا في تونس، أن إخواننا هناك زاهدون أشد الزهد في عملتنا، فهم يستقبلون أي عملة في الدنيا بسعادة غامرة، ويصرفونها بشهوة ظاهرة، من الين الياباني إلى الدينار اليمني، إلى الجنيه السوداني إلى الروبية الهندية، ولكنهم زاهدون فينا، فما تكاد تخرج لهم الدينار الليبي، حتى تتغير سحنتهم، وتتعكر صفوتهم، وينصحوك بالاحتفاظ به في جيبك، فليس له عندهم سوق ينفق فيها. ذلك على الرغم من اشتراكنا في الحدود، و اتحادنا في الدين والجنس واللغة والثقافة، وبلادنا امتداد لبلادهم، ونحن نجبر اقتصادهم، ونسند ضعفهم. والسؤال الذي يفرض هنا نفسه، هو إلى متى ستظل قوافل المرضى منا تتدفق نحو تونس، متى يوضع لهذه الفوضى ضوابط تنظمها، وتحفظ كرامة ليبيا وحرمة مواطنيها؟ لقد صرنا هناك شيئاً مضحكا ومبكياً معاً، لست أدعو إلى منع الناس من التماس العافية، فذلك ما لا يقول به عاقل، إذ من حق الفرد أن يسافر وراء صحته حيثما تيسر له في بلاد الله الواسعة. ولكن أدعو إلى دراسة أسباب هذه الظاهرة، ووضع الحلول المعقولة لها، وماذا يضير خزينتنا أن تخصص ثلاثة ملايين فقط، من تلك التي نجود بها ونبعثرها في كل مناسبة، لاستجلاب معدات طبية، وأن تعقد دورات للتدريب عليها وتفعيلها في المستشفيات، فإن تعثرت الخزينة في جمع هذا المبلغ، فليجمعه العقلاء من الصدقات والتبرعات، كما يجمعون عادة لبناء دور العبادات، فليست صحة المواطنين أقل أهمية من إقامة الصلوات، ثم لماذا لا يخصص في بنغازي مستشفى على غرار مستشفى السبيعة، يستقدم له أطباء في مجالات نادرة، لنستعيد ثقة المواطن في طب بلاده، وأطباء وطنه، وتدبير الأخيار من رجاله؟ المواطن الليبي اليوم راضخ لدفع كل مبلغ يطلب منه في سبيل عافيته، وعلى استعداد أن يبيع مكسوباته من عنزه إلى بقراته، غير أنه يتمنى أن يتوفر له العلاج داخل وطنه، فهو أرحم عليه من المرمطة في الجوازات، والشحططة في المطارات، والهروكة بين المصحات، ومرارة المتاعب في دولة أخرى، يجهل حتى قوانينها وأنظمتها. إن المواطن المريض المسكين، حين يصرف ماله هناك، لا يعني ذلك أن المال متوفر عنده، وزائد عن حاجته، وأنه إنما ينفقه تبذيراً وترفاً، كما يحاول بعض المتحذلقين أن يفسر الأمور، كلاٌ ولكنه مضطر تحت ضغط الألم القاتل، والتسيب العلاجي المتواصل، وضرورة البحث عن العافية الضائعة، ولا يعرف ذلك إلا من فقد عافيته، وتجرع مرارة الألم، وكابد مشقات الموت البطيء. لكم الله أيها التائهون الحيارى في مصحات تونس ومصر، من الرجال الوقورين، والعجائز الطيبات، والشبان والفتيات، إن بلادكم قد تغافلت عنكم، وتناست متاعبكم، وإلا فلماذا تحرمون العلاج في بلادكم، وبين مواطنيكم، لتشعروا بالأنس النفسي بينهم، ثم ليهنئوا من استعاد عافيته منكم، ويبكوا على من رحل إلى جوار ربه من بينكم، ولكن لا تيأسوا فعسى الله أن يسمع نداءكم، و يجيب دعاءكم، فيجعل لكم من محنتكم فرجاً ومخرجاً، فهو ولي ذلك والقادر عليه
د. إدريس فضيل/موقع السلفيوم Nov 22, 2008