حين يغيب الوازع الديني هل تملأ الوطنية الفراغ: في جدلية الدين والوطن من يحكم الضمير حقًا؟

كريم السليتي
كاتب وباحث في الإصلاح الإداري
كاتب وباحث في الإصلاح الإداري
تتجه العديد من الدول العربية إلى ترسيخ ما يُعرف بـ"الوازع الوطني" كمصدر لضبط السلوك وتنظيم العلاقة بين الفرد والدولة، في مقابل تراجع أو تغييب تدريجي للوازع الديني بوصفه مرجعية أخلاقية وروحية وتاريخية كانت تؤطر حياة المجتمعات على مدى قرون. هذا التحول لم يكن عفويا، بل جاء نتيجة سياسات وأحداث تاريخية حاولت بشكل ممنهج دفع الإلتزام الديني إلى دائرة الخصوصية الفردية، بينما تم الترويج وابراز الانتماء الوطني كهوية رئيسية.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، وبهدوء بعيدًا عن الانحيازات المسبقة: هل يستطيع الوازع الوطني أو الروح الوطنية أن يحل محل الوازع الديني؟ وهل هذا التبديل مجرد تطور طبيعي أم نتيجة لواقع سياسي وتاريخي فرضته الضغوط الخارجية ومحاولات "تحديث" مستعجلة؟
الوازع: ذلك الصوت الخفي في الداخل
الوازع، في جوهره، هو المحرّك الداخلي الذي يضبط السلوك البشري، سواء أكان فرديًا أم جمعيًا. قد يكون وازعًا دينيًا ينطلق من الإيمان بالغيب والمُساءلة الأخروية واستحضار لحظة الوقوف بين يدي الله للحساب، وقد يكون وازعًا وطنيًا ينطلق من الانتماء الجغرافي والولاء الحزبي أو السياسي.
الوازع الديني يردع الفرد حتى في غياب الرقيب، لأنه يستند إلى رقابة ذاتية عميقة، تتجاوز القانون المكتوب إلى الشعور بالحياء من الله والضمير. هي مثل النظارات التي ترى بها السلوكيات حلال هي أم حرام. أما الوازع الوطني، فيعتمد غالبًا على الانضباط المؤسساتي، والعقوبات القانونية، والولاء للدولة. والفرق هنا دقيق لكنه حاسم: فبينما يرتكز الأول على الشعور بالمسؤولية أمام خالق مطّلع على السرائر، يعتمد الثاني على الرقابة الخارجية التي تنشط بوجود الكاميرا أو رجل الأمن أو مصلحة المواطن.
في الواقع العربي، تجلى هذا الفارق في سلوكيات واضحة: فالفرد قد يلتزم بالنظام أمام القانون، لكنه يخلّ بالتزاماته حين يغيب الرقيب؛ يغشّ في الامتحان، يتحرش في الشارع، يختلس من الوظيفة، أو يتقاعس في العمل، لأن "الدولة" لا تراه، ولأن الوطنية لا تخاطب روحه كما يفعل الدين.
بين الأصل والدخيل: من أين جاء هذا الانقلاب؟
التحول من الوازع الديني إلى الوطني لم يكن وليد تطور اجتماعي داخلي، بل نتيجة مباشرة لمشروع استعماري هدفه إعادة تشكيل هوية المجتمعات الإسلامية. فبعد أن كانت وحدة الأمة الإسلامية واقعًا يُعاش، تم تقطيعها إلى دول قُطرية، وأُنشئت أنظمة تعليمية وإعلامية تُروّج لفكرة "الوطن المستقل" وتستحضر الرموز والشخصيات الوطنية وتُغفل الرموز والشخصيات الإسلامية التاريخية، وركزت على ضرورة الولاء المطلق له، دون أي اعتبار للانتماء الديني العابر للحدود.
استُنسخ النموذج الأوروبي الذي تأسس على فكرة الدولة الأمة Nation-State، لكن دون ملاحظة أن الغرب لم يُبنَ على وازع ديني جامع أصلًا، بل على قوميات متصارعة، ولغات متباينة، ومرجعيات تاريخية مختلفة، تطلب توحيدها قرونًا من الدماء والاضطرابات.
أما في الحالة العربية، فالأمر على النقيض تمامًا: فنحن شعوب تجمعنا اللغة، والدين، والمذهب، والعادات، والتقاليد، والوجدان الجماعي. بل أكثر من ذلك، يجمعنا النص القرآني الصريح: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. فلماذا نتنازل عن هذا الرابط الطبيعي العميق لصالح نموذج استُورد من بيئة مغايرة تمامًا؟
المآلات: حين تتحول الهوية إلى جُزر
ما الذي يحدث حين يُغيَّب الوازع الديني وتُقدَّم الوطنية على أنها البديل الكامل؟ أول ما يضيع هو البوصلة. يصبح الولاء مرتبطًا بالأرض فقط لا بالقيم، وتنحسر فكرة المسؤولية الشاملة تجاه المظلوم، حتى لو كان أخًا في الدين. يصبح الفلسطيني قضية "خارجية"، ويُعامل اللاجئ السوري كـ"عبء"، ويُنسى أن الأمة جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
على المستوى الفردي، يظهر ذلك في سلوك الموظف الذي لا يتقن عمله لأن الضمير غائب، أو المسؤول الذي ينهب المال العام ما دام النظام لا يردعه، أو الشاب الذي يرى التحرش فحولة لا خطيئة، أو المواطن الذي يخرق القانون إذا لم يُضبط، لأن الوطنية في وعيه شعارات وأناشيد لا أخلاق ومسؤولية.
وفي ظل هذا الانفصام، تتولد شخصية مزدوجة: قد تكون متديّنة ظاهريًا (منتمية للاسلام) لكنها بلا التزام أخلاقي أو اخلاص في المعاملات، أو وطنية بالشعارات لكنها انتهازية في الممارسة، لأن العمق الأخلاقي تم تقويضه من الداخل.
ما العمل؟ بين تصحيح المسار واستعادة المعنى
كلنا مع الوطنية دون شك، ولا أحد ينكر قيمة الأرض والانتماء إليها، بل إن هذا الحب للأرض هو من الفطرة السليمة، ولكن يجب ألا تتحول الوطنية إلى تعصب أعمى أو إلى بديل عن الدين، أو إلى مشروع منافس له. الوطن بيت كبير داخل الأمة، لكنه ليس الأمة كلها، والدين هو الذي يمنح هذا البيت روحه ودفأه وكرامته.
ما من شك أنه علينا أن نعيد الاعتبار للوازع الديني كمنظومة أخلاقية ضابطة، لا مجرد طقوس فردية. أن نغرس في الطفل الوازع الديني منذ صغره وأن الوطن لا يُبنى بالحب وحده أو بالأناشيد ورفع الأعلام وتشجيع المنتخب، بل بالصدق، والأمانة، والحرص والإحسان، والمسؤولية. أن نُذكّر المواطن أن الخيانة للوظيفة فساد، وأن الغشّ في العمل خيانة، وأن الكلمة أمانة، وأن الله يراه حيث لا تراه الدولة.
المدرسة، والإعلام، والمسجد، والعائلة، يجب أن تتعاون لإعادة بناء الإنسان العربي على قاعدة الوازع الأصيل، لا على نماذج هجينة لم تنجح في بيئتها الأصلية إلا بشروط غير متوفرة عندنا.
العودة إلى الأصل ليست رجعية
الحنين إلى الدين ليس نكوصًا عن الحداثة بل إن الأخلاق والاخلاص والالتزام والحرص والاتقان هي عين الحداثة، والاعتزاز بالأمة الواحدة ليس خيانة للوطن، بل هو ارتقاء بالوطن إلى أفق أوسع ونبذ للتعصب، حيث لا تُبنى الجدران بين أبناء العقيدة الواحدة، ولا تتقوقع الشعوب في حدود رسمها المستعمر ثم تركها لنا كألغام ثقافية وفكرية.
إن الإنسان العربي بحاجة إلى بوصلة جديدة، أو بالأحرى إلى البوصلة القديمة التي أُبعدت عمدًا: بوصلة تجعل منه مواطنًا صالحًا، نعم، لكن أولاً إنسانًا مسؤولًا أمام الله، لا أمام الدولة فقط.
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 306889