الثورة الإدارية: من أين نبدأ؟

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/67a4bfe7564663.68289987_fmekohnqipglj.jpg width=100 align=left border=0>


كريم السليتي
كاتب وباحث في الإصلاح الإداري







أعلن رئيس الجمهورية التونسية دعوته الصريحة إلى "ثورة إدارية"، لا مجرد إصلاح إداري، بدا جليًا أن المقصود ليس تحسينات شكلية أو ترقيعات جزئية، بل تحوّل جذري في بنية الإدارة وفلسفتها وممارساتها وقطع تام مع ماض أرهق الموطن والمستثمر والموظف. الثورة الإدارية تعني قلب المفاهيم رأسًا على عقب، وكسر حلقة البيروقراطية العقيمة، والتأسيس لإدارة فاعلة وناجزة تخدم المواطن، لا أن تستهلك طاقاته وتعيق طموحاته وتبدد الموارد الوطنية.

ولكي تكون هذه الثورة واقعية وعلمية، لا بد من العودة إلى أبرز التجارب الفكرية والميدانية التي أسست لتحولات مماثلة، وفي مقدمتها الكتاب المرجعي "Reinventing Government" (إعادة اختراع الحكومة) لديفيد أوزبورن وتيد غيبلرOsborne & Gaebler, 1992، الذي أحدث صدى عالميًا في التسعينات وترك أثرًا بالغًا في تحولات الإدارة الحديثة.


مبادئ "إعادة اختراع الحكومة" كما حددها أوزبورن وغيبلر

يعرض الكتاب عشر مبادئ محورية لإعادة ابتكار دور الحكومة، ويؤسس بها لما يسميه "الحكومة الريادية":

1. التمكين لا التقديم المباشر للخدمات: على الحكومة أن تركز على التوجيه والإشراف، لا على تقديم كل شيء بنفسها. تمكين الجهات الفاعلة (مجتمع مدني، قطاع خاص، إدارات محلية، متطوعون) هو السبيل إلى فاعلية أكبر، وتقريب الخدمة من الموطن.

2. التركيز على النتائج لا على المدخلات: تقييم العمل لا يجب أن يقوم على عدد الموظفين أو الميزانية، بل على النتائج والمخرجات وجودة وسرعة الخدمة ومدى رضا المواطن.

3. اللامركزية وصنع القرار الأقرب إلى المواطن: الإدارة الأقرب للأرض أقدر على التفاعل مع المتغيرات والاستجابة للاحتياجات. وهو ما يتطلب حسن اختيار المسؤولين المحليين ومساءلتهم لاحقا عن قراراتهم.

4. روح المبادرة عوضًا عن البيروقراطية: تشجيع روح الريادة والتجريب والمخاطرة المحسوبة داخل الإدارة بدل الانغلاق في قوالب روتينية.

5. المنافسة كمحفز للأداء: فتح المجال للمنافسة بين الإدارات وداخلها، وأيضًا بينها وبين القطاع الخاص، يعزز الابتكار والجودة. فعلى سبيل المثال اجراء ترتيب سنوي للوزارات حسب الخدمات المقدمة الكترونيا بشكل كامل أو ترتيب البلديات أو المستشفيات حسب الجودة ورضا المتعاملين.

6. التنوع في الخدمات بدلًا من الحلول النمطية: الاعتراف بأن المواطنين مختلفون ويحتاجون خدمات مرنة وموجهة، لا موحدة وميتة.

7. خدمة المواطن لا السيطرة عليه: وضع المواطن في قلب الخدمة، وقياس الأداء بدرجة رضاه، لا بمستوى طاعة الأوامر. يتعين التعامل مع المواطن كحريف، وليس كخاضع للادارة.

8. الموازنات المرتكزة على الأداء لا على السوابق: توزيع الموارد بناء على الأهداف المحققة لا على النفوذ التاريخي. مثلا يتم تحديد الميزانية حسب عدد المرضى الذين زاروا المستشفى أو عدد التلاميذ في المدرسة وهذا سيخلق تنافس لتحسين الجودة واستقطاب اكبر عدد من المتعاملين للحصول على موارد أعلى.

9. التكامل والتنسيق بدلًا من التجزئة والتضارب: الإدارات يجب أن تعمل بانسجام لا كجزر معزولة. لكن دون أن يكون هذا التنسيق وتبادل المعلومات سببا في تشتيت المسؤولية أو في تعطيل اتخاذ القرارات.

10. الاستباق لا الاستجابة فقط: الإدارة الناجحة تخطط وتستبق الأزمات بدل أن تتحرك فقط عندما تقع المشكلة، وهو ما يتتطلب إدارة فاعلة للمخاطر وتجهيز خطط معالجتها واحداث خطط استمرارية الاعمال في حال مجابهة طارئ ما.

هذه المبادئ تصلح لأن تكون جزءا من خارطة طريق لتونس إن أرادت ثورة إدارية فعلًا.


الإدارة التونسية: تشخيص واقعي لعلل مزمنة

الإدارة التونسية لا تعاني فقط من ترهلات، بل من اختلالات جوهرية أثرت على ثقة المواطنين في الدولة وعلى إرادة الاستثمار. ومن أبرز هذه المعضلات: بشكل مختصر

- الاختلال في التعيينات
- عدم احترام الاختصاص
- التوظيف العشوائي
- غياب منظومة تقييم ومساءلة فعلية
- ضعف رقمنة المرافق
- فوضى في توزيع الصلاحيات
- ثقافة التسيب والانتهازية


ماذا نستفيد من تجارب الآخرين؟ جورجيا، رواندا، ونيوزيلندا

هناك دول كثيرة كانت تعاني مشاكل هيكلية في إداراتها العمومية لكنها تمكنت تدريجيا من تجاوز عنق الزجاجة:

- جورجيا: قامت بثورة في الحوكمة من خلال رقمنة شاملة للوثائق والخدمات، وفصل تام بين المصالح الإدارية والمصالح السياسية.
- رواندا: فرضت نظام تقييم صارم للإدارات، وأجرت تغييرات عميقة في ثقافة الموظف، ورفعت شعار "خدمة المواطن أولًا".
- نيوزيلندا: ربطت صرف الميزانيات بمؤشرات دقيقة للأداء، واعتمدت عقود أهداف لكل مسؤول.


توصيات عملية لتطبيق الثورة الإدارية:

1. إنشاء مجلس وطني أو هيئة مستقلة للكفاءات والتعيينات
2. إرساء نظام وطني للمساءلة الإدارية
3. فرض الرقمنة في جميع الخدمات الإدارية
4. إعادة صياغة قانون الوظيفة العمومية
5. تعميم التقييم الدوري للمسؤولين
6. تحديد دقيق للاختصاصات ومنع التداخل
7. اعتماد الموازنة بحسب الأداء
8. بعث مرصد وطني لرضا المواطن
9. تنمية روح المبادرة داخل الإدارة
10. إطلاق منافسة سنوية وطنية بين الإدارات والبلديات والمستشفيات

إن ما فعله الآخرون نستطيع فعله وأكثر فلا تنقصنا لا العزيمة ولا الذكاء ولا الخبرات، ما نحاجه هو أن نملك الجرأة و المبادرة والقطع مع الأساليب البالية والشفافية الأخلاقية. إن الإصلاح في جورجيا ورواندا لم يكن حلمًا، بل قرارًا سياسيًا صارمًا تبعه جهد مؤسسي متواصل أدى لتغيير حقيقي، دفع التنمية ورفع من رضا المتعاملين.

نحن بحاجة إلى ثورة إدارية تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وتبني دولة خفيفة ورشيقة لكنها قوية وعادلة وناجزة. نحتاج إلى جعل كل إدارة في منافسة شريفة مستمرة مع غيرها لتحسين خدماتها. ونحتاج إلى إعلاء قيمة التميز على الولاء.

الثورة تبدأ حين نقرر أن "لا بيروقراطية فوق المصلحة العامة".

ولذلك... فالسؤال لم يعد: هل نبدأ؟ بل: متى؟



Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 306973


babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female