
إيليا أبو ماضي: شاعر التفاؤل وصاحب الطلاسم Bookmark article
في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1957 توفي الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية جراء أزمة قلبية، عن عمر يناهز 68 عاماً.
ويُعدّ إيليا أبو ماضي واحداً من أبرز أعلام الشعر العربي الحديث، ومن أهم الأصوات التي شكّلت ملامح مدرسة المهجر في بدايات القرن العشرين، وقد استطاع أن يقدّم نموذجا فريدا للشاعر الذي يجمع بين الغنائية العميقة، والتأمل الفلسفي، والروح الإنسانية المتفائلة حتى أن النقاد أطلقوا عليه لقب شاعر الأمل والتفاؤل.
وعلى الرغم من رحلاته المتعددة، ومن الحياة التي عاش أغلبها خارج الشرق، ظلّ أثره ممتداً في الوعي العربي، وأصبحت قصائده تُدرّس في المدارس والجامعات وتُتداول بين القرّاء بوصفها مثالاً للشعر القريب من الإنسان، البعيد عن التعقيد، والغني بالمعاني والدلالات.
- لقاء مع الشاعر والمفكر السوري أدونيس
- تحدّى المؤسسة الدينيّة وانتقد "خروج الثورة من المساجد"، ماذا نعرف عن الشاعر السوري أدونيس؟
وقد امتاز إيليا أبو ماضي عن غيره من الأدباء بوضوح النزعة التأملية في أشعاره، كما أنها تنبع من تجارب ذاتية وجدانية وواقعية عاشها الشاعر، وعلى الرغم من مرور زمن طويل على إنتاجه الأدبي، إلا أن نصوصه تظل مفتوحة، وقابلة لقراءات متعددة ومتجددة.
البدايات
وُلد إيليا ضاهر أبو ماضي في 6 إبريل/ نيسان من عام 1889 في قرية المحيدثة بجبل لبنان، وهي قرية صغيرة تحيط بها الطبيعة الجبلية التي ستترك لاحقاً أثراً واضحاً في شعره.
ونشأ في أسرة متواضعة تعاني من ضيق الحال، مما جعله يختبر منذ صغره معنى الكفاح والعمل المبكر، وقد تلقى تعليمه الأولي في مدرسة القرية، فتعلم القراءة والكتابة والمبادئ الأساسية للغة العربية، لكنه سرعان ما أبدى ميوله الشعرية من خلال حفظه للقصائد ومحاولة محاكاتها.
وكانت مرحلة الطفولة مليئة بالتحول، فقد عاش في بيئة تخضع لضغوط الضرائب العثمانية والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي دفعت الكثير من سكان جبل لبنان إلى الهجرة.
ومع بلوغه سن الثالثة عشرة، أصبحت أوضاع أسرته أصعب، مما دفعها إلى اتخاذها القرار بمغادرة لبنان متوجهة إلى مصر، ولم يكن القرار سهلاً، لكنه كان نتيجة طبيعية للضيق الاقتصادي.
مصر
وقد استقرت الأسرة في البداية في الإسكندرية ثم انتقلت إلى القاهرة حيث كان يعمل مع عمه في تجارة التبغ.
وحمل معه إلى مصر ذكريات قريته والطبيعية هناك، وإحساساً بالحرية، وبدايات ميول شعرية ستنمو بسرعة في البيئة الثقافية الجديدة التي كانت تنتظره في القاهرة.
وكانت مصر بالنسبة إليه مدرسة حقيقية، ففي القاهرة تعرّف على نمط جديد من الحياة، واكتشف قوة الصحافة ودورها في تشكيل الرأي العام، كما تعرّف على شعراء وكتّاب تركوا أثراً في حياته الفكرية.
ومع مرور الوقت، بدأ يقترب من الأوساط الأدبية والصحفية، ووجد نفسه يقرأ الصحف اليومية ويتردد على المنتديات الثقافية، مما وسّع مداركه وفتح أمامه آفاقاً لم يكن يعرفها في طفولته.
واستطاع أبو ماضي أن ينشر أولى قصائده في الصحف المصرية، ومنها جريدة "الرجاء"، مما أتاح له الفرصة للظهور بوصفه صوتاً شاباً جديداً في عالم الشعر، كما التقى بأنطون الجميل، الذي كان قد أنشأ مجلة الزهور، فدعاه للكتابة فيها بعد أن اكتشف موهبته الأدبية.
وفي عام 1911 أصدر ديوانه الأول بعنوان "تذكار الماضي" وكان يبلغ من العمر 22 عاما، ورغم أن الديوان يحمل العديد من سمات البدايات الشعرية، إلا أنه كشف عن شاعر يمتلك حساً موسيقياً واضحاً، وميولاً إنسانية عميقة، ورغبة في الابتعاد عن التكلف اللغوي الذي كان سائداً في بعض المدارس الشعرية في ذلك الوقت.
وتزامنت فترة وجوده في مصر مع ظهور الحركات الوطنية وموجات الوعي السياسي، مما جعله يفهم بعمق علاقة الأدب بالواقع الاجتماعي، ومع ذلك، ظلّ حلمه أكبر من حدود مصر، إذ بدأ يتابع أخبار الهجرة إلى الأمريكيتين، وسمع الكثير عن الفرص المتاحة هناك، وكان يدرك أن السفر إلى الولايات المتحدة سيمنحه فضاءً أوسع للتعبير ولتحقيق ذاته الشعرية.
الولايات المتحدة
هاجر أبو ماضي إلى الولايات المتحدة سنة 1912، وكانت تلك الرحلة نقطة التحول الكبرى في حياته حيث وصل أولاً إلى مدينة سينسيناتي في ولاية أوهايو، وهناك عمل مع أخيه مراد في التجارة.
وتنقل بين الولايات حتى استقر في نيويورك عام 1916، وعمل رئيس تحرير"المجلة العربية"، ثم تركها ليعمل في تحرير مجلة الفتاة التي أصدرها شكري البخاش، كما عمل نائباً لرئيس تحرير مجلة مرآة الغرب بين عامي 1918 إلى 1928، وتزوج من دورا نجيب دياب ابنة صاحب جريدة مرآب الغرب، وأنجبا 3 أبناء هم ريتشارد وإدوارد وروبرت.
وفي نيويورك، التي باتت مع الزمن عاصمة الأدب العربي المهجري، التقى بجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وانضم إلى الرابطة القلمية التي تأسست عام 1920 بهدف تجديد الأدب العربي والابتعاد عن الأساليب التقليدية، وكان أبو ماضي من أهم أعضائها وأكثرهم تأثيراً، نظراً لروحه الإنسانية المتفائلة التي انسجمت مع فلسفة الرابطة ودعوتها إلى تحرير اللغة والشعر من الجمود.
وفي عام 1929 أسس أبو ماضي مجلة "السمير" نصف الشهرية والتي تحولت إلى صحيفة يومية عام 1936، وهي من أهم إنجازاته على الإطلاق، فقد كانت "السمير" صوت العرب في المهجر، ومنبراً لنشر المقالات والقصائد والحوارات الثقافية، ولاحقاً أصبحت جزءا أساسيا من الهوية العربية في أمريكا، وبفضل هذه الصحيفة أصبح أبو ماضي شخصية مؤثرة في مجتمع المهاجرين، واستطاع أن يجمع بين دور الشاعر ودور الصحفي المفكر.
أبرز القصائد
في هذه الفترة كتب أبو ماضي أشهر قصائده، وعلى رأسها "الطلاسم" التي ظهرت في ديوانه "الجداول" عام 1927، وقد أثارت القصيدة جدلاً واسعاً بسبب طابعها الفلسفي العميق وتساؤلاتها الوجودية.
لكنه ظل يؤكد أن الشعر، بالنسبة إليه، ليس غموضاً مفتعلا ولا تشاؤما، بل بحث هادئ عن المعنى، قائم على التفاؤل والإيمان بقيمة الإنسان، وتجلت هذه الفلسفة أيضاً في قصائد مثل "فلسفة الحياة" و"التينة الحمقاء" و"كن بلسماً"، التي قدمت رؤيته الأخلاقية والجمالية بطريقة بسيطة قريبة من الروح.
ومع نضوجه الأدبي، أصدر ديوانه "الخمائل" عام 1946، وهو أحد أجمل أعماله لما يجمعه من موسيقى رقيقة وتأملات إنسانية، وذلك إلى جانب دواوينه الأخرى "تذكار الماضي"، و"ديوان إيليا أبي ماضي"، و"الجداول"، و"تبر وتراب".
كما كتب مقالات فكرية متعددة في "السمير"، عبّر فيها عن رؤيته للإنسان والعالم، وعن رفضه للتعصب الديني والطائفي، مؤكدًا أن جوهر الدين هو الحب.
الوفاة والإرث
بعد انقطاع طويل، زار إيليا أبو ماضي لبنان بدعوة من الحكومة اللبنانية لحضور مهرجان " اليونسكو" عام 1948، حيث تم منحه وسامي "الأرز"، و"الاستحقاق"، فكتب قصيدته "وطن النجوم"
كما أقيمت له حفلات تكريم في العاصمة السورية دمشق حيث مُنح وسام "الاستحقاق" الممتاز عام 1949.
وقد بدأت صحته تتدهور في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، لكنه ظلّ يعمل ويكتب في صحيفته حتى الأيام الأخيرة من حياته، وفي 23 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1957 توفي في نيويورك جراء أزمة قلبية عن عمر يناهز 68 عاماً، ودفن هناك بين أبناء الجالية العربية التي أحبته وشاركته مسيرته.
وكانت وفاته نهاية رحلة طويلة امتدت من جبال لبنان إلى قلب أمريكا، لكنها لم تكن نهاية تأثيره العميق في الأدب العربي.
لقد كانت حياة أبو ماضي مليئة بالحركة والتحوّل، فقد انتقل من قرية صغيرة في لبنان إلى القاهرة، ثم عبر المحيط إلى الولايات المتحدة، وكل مرحلة من حياته تركت أثراً واضحاً على شعره.
وتميّزت تجربته بانتقالها من البساطة الريفية إلى زخم المدن الكبرى، ومن مواجهة الفقر إلى الانفتاح على العالم والاطلاع على آداب وثقافات جديدة، وقد جعل هذا التنقل بين المراكز الثقافية عبر 3 قارات منه شاعرا عالمياً بروح عربية، يجمع بين الحنين والمغامرة، وبين التأمل والمرح.
لقد ترك أبو ماضي إرثاً شعرياً وفكرياً كبيراً، فقد أصبح شعره جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية العربية، يتم تدريسه في المدارس والجامعات، وتستشهد به الدراسات الأدبية، ويتناقله القراء في العالم العربي والمهجر، وتميز إرثه بأنه يجمع بين البساطة والعمق، وبين النزعة الفلسفية والإيقاع الموسيقي، مما جعله قريباً من القارئ مهما اختلفت ثقافته أو خلفيته.
كما أن تجربته المهجرية ألهمت أجيالاً كاملة من الشعراء والكتّاب الذين وجدوا في قصته مثالاً على قدرة الإنسان على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.
لقد كان له موقف فكري واضح يتلخص في الإيمان بالإنسان، والبحث المستمر عن الخير، والدعوة إلى الحياة بروح إيجابية، ولذلك تحضر في شعره دائماً نبرة التفاؤل، حتى حين يناقش الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود، فهو القائل في قصيدته "فلسفة الحياة":
أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ
كُن جَميلاً تَرَ الوُجودَ جَميلا
- محمد إقبال: الشاعر والمفكر الهندي الذي غنّت له أم كلثوم
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- سعود القحطاني: الشاعر الذي فارق الحياة على قمة جبل






