هرولة ''الحداثيين'' إلى المستعمر الفرنسي

بقلم حاتـــــم الكسيبي
أصدقاؤنا في المعارضة الديمقراطية كما سمّوها مؤخرا، استحوذوا على كل الأسماء تقريبا الرنّانة فأثقلوا بها مسامعنا صباحا مساء وخاضوا حروب الإعلام القذرة بعد أن تلوّنوا بحللها. فهم المعارضة والديمقراطيون والحداثيون والتقدميون والنخبة السياسية والنخبة المثقفة والمجتمع المدني والحقوقيون والمحللون السياسيون وخبراء الاقتصاد و النقابيون وتطول القائمة ولا تنتهي، و هم تونس بأسرها ولكنهم قلة في المجلس التأسيسي تلك السلطة الشرعية لهذا الشعب، وتلك مفارقة يعجز جميع المعارضة بكافة مسمياتها أن يفسرونها بكل صراحة وموضوعية. وقد دعت المصلحة اللاوطنية أن تتحالف المعارضة الديمقراطية مع فصيل لقيط الأب وأمه تجمعية خالصة، فصارا يكيدان للشرعية المؤامرة تلو المؤامرة والأمل يحدوهم بنجاح إحداهنّ فيرجع السّيد سّيدا والسجين سجينا كما صرّحوا في عديد زلاّت لسانهم.

كل هذا الأمر مقدّر له أن يحدث فنتفهّمه ونرجّح أن الصراع السياسي قد يشوبه انتفاضات تحلحل الساحة فنستخلص العبر ونرقى بمستوى الخطاب والفعل السياسي ويعود ذلك بالخير على العباد والبلاد. ولكنّ ما حدث ويحدث هذه الأيام لا يبشّر بالخير و لا ينمّ على تجاذب سياسي شريف. لقد فاض الصاع وامتلأ القلب حزنا على عملية انتخابية ديمقراطية ناشئة هللّ لها جميع الدول والمراقبين ولم تفرح بها هاته المعارضة الخرقاء. فعمدت الى تأسيس مجلس موازي سرعان ما خفت صوته و إلى شرعية توافقية بعد 23 اكتوبر ثم التجأت في آخر الأمر إلى المستعمر الفرنسي القديم الجديد. فقد كثر حجّهم إلى باريس، فقصدوها فرادى وجماعات وعمدوا إلى تمزيق الروابط الدبلوماسية بين الدولتين باستعانتهم برأس حربة مخضرم في تزييف الحقائق ونسج المكائد والمؤامرات، ولم ينجو من ذلك اتحاد الشغل القوي على مدى الزمن والمستمدّ لشرعيته من العمال التونسيين، فراح بدوره الى فرنسا و زاد شرعية على شرعيته ثم عاد بخفي حنين. لقد ألّبت المعارضة الديمقراطية راعيها الفرنسي على مستقبل ثقافته وحضارته في تونس فهرع كالمعتوه مدافعا عنهم وعن أفكارهم ومنحهم ألقاب الشرف وناصب العداء الخفي للسلطة الشرعية. ولعل زلّة لسان المذيعة أن ذكّرت أنّ تونس مستعمرة فرنسية لم يأت من فراغ بل بعد جهد جهيد أبلته معارضتنا الديمقراطية منذ شهور خلت. ولقد وجدوا كامل الدّعم والتشجيع من الطبقة السياسية الفرنسية بيمينها ويسارها، فكلهم يكرهون العربي منذ أمد بعيد وخصوصا إن أظهر هذا المسكين أصالته و تجذره في حضارته القديمة قبل الاستعمار الفرنسي. وأعمق دليل على ما أقول ما عمد إليه ذلك الإعلامي العجوز الصهيوني الكباش وهو يطرح أسئلة مغرضة عن تونس الجريحة فيسأل وزير داخليّته عن الحجاب والسلفية وينسى الفقر والتنمية وتعصير طرق الإنتاج. ويجيب هذا الوزير الفرنسي بتعلاّت واهية و وقاحة غريبة: أنّ وضع تونس الديمقراطي مؤسف وأنّ على فرنسا مساعدة أدعياءها ممن تربّوا على أياديها.
لقد عشنا في فرنسا وأكلنا خبزهم وتعلمنا علومهم وخبرنا طريقة تفكيرهم وتقديرهم إلى الأشياء. ففرنسا برمّتها لا ترضى أن تذهب جهودها في نشر ثقافتها في العالم سدى وخصوصا في إفريقيا والمغرب العربي، بل و يعتبرونها طامة كبرى ومصاب لا دواء له سوى الاستعانة بمن أحسنت تربيتهم الفكرية والتغريبية. فرنسا ترغب دائما أن نكون كبعض الأفارقة السود الذين تمسّحوا وأكلوا الحلّوف رغم حرارة الطقس عندهم، فمسحت هوياتهم ولم يبقى منها سوى لون البشرة. فرنسا لا تقبل أن تنهض في تونس أو الجزائر أو المغرب ثقافة تجمع بين الأصل والحديث، وبين المكونات العربية الإسلامية والغربية العالمية، تخال نفسها فرعونا ترينا ما ترى و تعلّمنا كنه الحضارة كالأغبياء، فهي ربّنا الأعلى و لائكيتها وحي يوحى. لقد آمن به نزر قليل من أبناء بلدنا ولهم كامل الحق والحرية في ذلك ولهم أن يدعوا بتلك الأفكار كما شاءوا. ولكن عليهم أن يعترفوا بأنهم أداة تغريبية تسعى الى تغيير واقع متجذر في قيمه وسلوكه إلى نمط أوربي لا نملك أدنى مقوماته. فلا تثقلوا مسامعنا باجتثاثات فكرية من هنا وهناك و لا تحسبوا أنّ القوم يزهدون في أصالتهم وفي دينهم الذين تعلّموه جيّدا في الكتاتيب وفي المدارس والمعاهد وعند مشائخ الزيتونة الأشاعرة المالكية وتعلمتموه من فرنسا على أنّه طقوس تقام في البيت و يوم الجمعة كلّما احتاجت نفسك لروحانيات و صلوات وترنيمات كما يفعلون في تحريفاتهم. ولعل شعرا عربيا رائعا قيل في القدم يحسن وصف هذه المجموعة المتملقة الفاشلة على الدوام وليعذرني القوم إن اغفلت الأبيات التالية عن عديد شمائلهم الأخرى:
اما الحماسُ فإني غيرُ شاتمهمْ، لا هم كرامٌ ولا عرضي لهمْ خطرُ
قومٌ لئامٌ أقلّ اللهُ عدّتهمْ، كما تساقَطَ حَوْلَ الفَقْحَةِِ البَعَرُ
كأنّ رِيْحَهُمُ، في النّاسِ إذْ بَرَزُوا، ريحُ الكِلابِ إذا ما بَلّهَا المَطَرُ
أولادُ حامٍ، فلنْ تلقى لهمْ شبهاً إلاّ التَيوسَ عَلى أكْتافِها الشّعَرُ
إنْ سابَقوا سُبِقوا، أو نافرُوا نُفِرُوا، أوْ كاثَرُوا أحداً من غيرِهمْ كُثِرُوا
شِبْهُ الإماء، فلا دِينٌ ولا حَسَبٌ، لوْ قامروا الزنجَ، عن أحسابهم، قمروا
Comments
7 de 7 commentaires pour l'article 60297